طريقة العرض :
كامل
الصورة الرئيسية فقط
بدون صور

اظهار التعليقات


دحدح في رمضان


نداء قديم في شوارع جبل التاج وصوت شجي ينادي كابر دحدح يسحرني ، حيث تتسلق البيوت الحجارة على الجبال وتختلط أصوات الحياة مع نسيم المساء، كان بائع 'الدحدح' يظهر في وقت متأخر بعد الظهر، وهو يخطو ببطء بين الأزقة الضيقة، محملاً بحلوى كانت تأخذ مكانها على السدر الكبير الذي يرافقه حامل خشبي. كان لباسه يختلف عن تلك الصور التقليدية التي كنا نراها في أهل المنطقة. لم يكن يرتدي لباسا مميزا ، بل كان يرتدي بنطالًا قديمًا، أزرق اللون، يبدو أنه قد عايش العديد من الأيام الحارة والممطرة، لكنه كان يظهر دائمًا بنظافة وتواضع، يحمل بين طياته أمانة الأجيال التي سبقت.

هذا البنطال كان يعكس جزءًا من شخصيته، الشخصية التي تحمل في ثناياها البساطة والجمال البعيد عن التكلف. ومع كل خطوة كان يخطوها، كان يبدو كمن يحمل تاريخًا طويلًا من اللحظات الصادقة في الأحياء القديمة، مكانًا يضم بين تفاصيله القصص والتجارب. كانت قميصه البسيط مع البنطال يجسد شخصية الرجل الذي يعامل الحياة بتواضع، لكنه في الوقت نفسه كان يمتلك سحرًا خاصًا، وهو يسير حاملاً السدر الكبير الذي يحتوي على قطع الحلوى المشوية.

أما السدر، فكان يشع من فوق رأسه والحامل على كتفه، وكنتَ تلمح لمعان الحلوى المصنوعة بعناية: السكر، القرفة، والسميد، الممزوجة معًا في تكامل مذهل. كان يضع المشحاف بحركة رشيقة لقطع الحلوى إلى قطع صغيرة، كما لو كان يقطع لحظات الفرح التي تتناثر على أيدينا. كان يقطع الحلوى بدقة متناهية، مع طمأنينة واضحة في حركاته، وكأن كل قطعة تخرج من يده تحمل معها جزءًا من روح المكان، جزءًا من البساطة والجمال الذي كان يعكسه هذا البائع الطيب.

كانت حلوى 'الدحدح' هذه، رغم بساطتها، تحمل خصوصية عجيبة، فهي لم تكن مجرد طعام حلو، بل كانت رمزًا لكل لحظة في حياتنا، لكل تفصيلة في ذلك الزمن البسيط، حيث تلتقي الأجيال على طاولة واحدة، وسط ضجيج الحياة اليومية، لكنهم يتفقون على شيء واحد: أن السعادة أحيانًا تكمن في الأشياء البسيطة. كانت الحلوى، التي تتكون من السكر والقرفة والسميد، تذوب على اللسان، تحمل لذة تفوق طعمها نفسه. وكأنها تذكرنا بأهمية التقدير للأشياء الصغيرة التي تقدم لنا، لأنها تكون في أحيان كثيرة، أغنى من أي ثروة نملكها.

تلك اللحظات التي كنا نعود فيها من المدرسة في فترة ما بعد العصر، كانت تتخللها تلك السعادة البسيطة. كانت الحلوى تنتظرنا في كل زاوية، ونحن نسير في الشوارع بين البيوت المتلاصقة، وكأننا في رحلة يومية للبحث عن قطعة من تلك السعادة التي تُقدم لنا في كل قطعة حلوى، تُقطع بدقة على المشحاف.

وفي المساء، عندما كنا نذهب إليها، كانت تلك اللحظات مليئة بالراحة بعد يوم طويل. كانت الأعين تلمع بالسعادة حين نشتري قطعة حلوى من يدي ذلك الرجل الذي طالما أضفى جوًا من الدفء على شوارعنا. كان النداء ' كابر دحدااااح' يتردد في الأرجاء، وكأنه نغمة سحرية تسحبنا نحو الحلوى كما يسحب المغني الجمهور إلى موسيقاه.

في ذلك الزمن، كانت الحلوى لا تُقاس بالكيلوغرامات أو بالجودة التجارية. كانت تُقاس بقيمتها النفسية، وباللحظات التي عشناها من أجل الحصول عليها. كانت تلك اللحظات التي ترافق بائع 'الدحدح' ببنطاله القديم، السدر الكبير الذي يحتوي على قطع الحلوى، وحركاته الرشيقة التي كانت توحي بالطمأنينة، بمثابة احتفالات صغيرة في يومياتنا. كانت تُمثل لحظة فريدة تعيد إحياء البساطة في نفوسنا، وتذكرنا بأن الحياة لا تحتاج إلا إلى هذه اللحظات الصغيرة، حيث يمكن للحلوى أن تكون أكثر من مجرد طعام، بل هي امتداد لحياة مليئة بالتفاصيل التي تنبض بالحياة.

جميع الحقوق محفوظة
https://www.ammonnews.net/article/909758