إذا أردنا أن نفهم الأسباب التي تؤدي إلى الأخطاء القاتلة في التعامل مع حراك الشارع، فعلينا قبل ذلك إدراك حجم "الأوهام" التي تسكن "دوائر القرار" الرسمية حول طبيعة هذا الحراك وأسبابه وانتشاره.
أغلب هذه الأوهام تنبع من مصدر واحد، وهو أنّ من يتحرّك في الشارع هم "القلة" المحدودة، وأغلبها إما لمصالح شخصية أو ارتباطات حزبية تقودها المعارضة لتسجيل أهداف في مرمى الدولة، وفرض شروطها عليها.
ومن رحم هذا الوهم تولد فرضية رسمية أنّه لا يجوز أن يحدّد 5 آلاف شخص يتظاهرون في عمان، ويجوبون المحافظات، شروط الإصلاح السياسي وسقوفه؛ فهنالك "أغلبية صامتة" لا ترضى بهذا الحراك، وغير معنية بخطاب المعارضة ومطالبها.
بالضرورة، فإنّ مقتضى هذه الفرضيات أنّ الشريحة العامة من المواطنين على الطرف الآخر من الحراك أو أنّها "محايدة". لذلك على الدولة ألا ترضخ لقوى سياسية محدودة في التمثيل الاجتماعي والسياسي.
كان يفترض أن تتهاوى هذه الفرضيات عندما انتقل الحراك إلى المحافظات الأخرى، وتحديداً الجنوب، وتبيّن حجم الإحباط وخيبة الأمل والقلق على المستقبل، والمستوى الكبير للضغوط الاقتصادية على المواطن العادي الذي تحوّل إلى "قنبلة موقوتة".
لو بقيت الأمور عند حدود الـ5 آلاف الذين يتظاهرون في وسط عمان لما وصلت السقوف إلى هذا المستوى المقلق، ولو كانت دائرة الحراك ضمن "المعارضة التقليدية" والشخصيات الغاضبة -وفق الرؤية الرسمية- لكان التعامل أسهل. فما هو موجود على السطح هو رأس الأزمة السياسية، أمّا ثقلها الحقيقي فهو في العمق.
لماذا، إذن، ما يزال حجم الحراك في الشارع أقل بكثير مما شهدته شوارع عربية أخرى؟ لأسباب كثيرة، في مقدمتها أنّ الوضع السياسي تحديداً، برغم التخبط الكبير، لم يصل إلى ما وصلته دول عربية أخرى من انهيار، وهو ما يبقي "خصوصية" في العلاقة الداخلية، إلاّ إذا قرّر "أذكياء" في دوائر القرار تدميرها".
السبب الثاني أنّ هنالك "هواجس اجتماعية متبادلة" تجعل من "مظلة الدولة" ضمانة مشتركة، وهذه تمنح الموقف العام للشرائح الكبرى طابع الحذر بالنظر إلى ما يحدث، ليس لأنّها تشعر بالرضا، بل لأنّها "قلقة" من فقدان ميزة الاستقرار والأمان. وهذا السبب هشّ مع بروز محاولات واضحة لاختراق هذه "الفزّاعة".
في مقابل تلك الميزة؛ ثمة "مظلوميات" (سياسية واجتماعية واقتصادية..) شديدة، وشعور عارم لدى أوساط كبيرة بالحرمان الاجتماعي وغياب العدالة الاجتماعية، وفقدان "الأمل" بأفق أفضل، وهي عوامل يمكن أن "تنفجر" في أي لحظة، إذا واجهت "إنكاراً" أو تجاهلاً من "دوائر القرار"، بخاصة في المحافظات والمناطق التي تشعر بالحرمان الاجتماعي والتهميش الاقتصادي والسياسي.
إذا كانت الاحتجاجات الصاخبة تجتاح مدن العالم الرأسمالي، بل وفي قلب عواصم الاقتصاد، ضد "السياسات الرأسمالية" وغضباً من غياب العدالة الاجتماعية، وهي دول متقدمة ذات اقتصادات متطورة، وشروط الحياة والعمل أفضل بكثير؛ فكيف ستكون الحال –إذن- في دولنا التي تعاني في الأصل من أزمات اقتصادية خانقة ونسب مرتفعة من الفقر والبطالة والتضخم، فبالتأكيد حرارة الظروف الاقتصادية ستكون أكثر تأثيراً وأشد وطأة على الناس.
الخلاصة؛ ما نحتاجه ليس خطاب إنكار في الدولة أو اختزال لجذور الحراك الحالي وعمقه بفرضيات خشبية، بل على النقيض من ذلك. المطلوب خطاب في الاتجاه الآخر تماماً يقر بالأزمات وخطورتها، وبضرورة إحداث تغيير كبير في السياسات الاقتصادية والمعادلة السياسية، والبحث عن الممر الأردني الآمن في مرحلة تموج بالتحديات والأخطار والبيئة الإقليمية المضطربة.
(الغد)