الانظمة الربعية تنسف الت,ازن بين العمل المنتج والدخل المتآني منه, بتوفير بينة اقتصادية خاص تطغى فيه الزبائنة على الابداع وافراز نخبة طفيلية تعطل الاستثمار
تحول الاقتصاديات العربية من "ريعية" إلى "إنتاجية" يتطلب تضحيات سياسية جسيمة وتغييرا جذريا في العقود الاجتماعية بين الحاكم والمحكوم, قد لا تستطيع الانظمة الشمولية- وإن بدرجات متفاوتة- دفع تكلفتها مرحليا مع أنها ضرورة حتمية لضمان الأمن والاستقرار مستقبلا.
فالانظمة العربية, الملكية والجمهورية - أوتوقراطية في غالبيتها غير منتخبة - تتكئ على عصا السلطة المطلقة والريع المتأتي من النفط, المساعدات الخارجية, تحويلات المغتربين وعوائد السياحة في إدارة الدولة وكسب الولاء بعيدا عن الشفافية. أنظمة تعتمد على التوظيف في القطاع العام, دعم المحروقات والمواد الغذائية وتوزيع الهبات والمكارم بدلا من خلق فرص عمل منتجة وتوزيع الدخل بعدالة مع نسج شبكات حماية من تأمين صحي وضمان وتكافل اجتماعي لتعزيز منظومة الرفاه المجتمعي.
هذه الأنظمة تستغل الثغرات الدستورية/ القانونية والترهل المؤسسي للتصرف من دون ضوابط بالإيرادات العامة من خلال حسابات غير معلنة غير خاضعة للرقابة والتدقيق. وبذلك تتقزم الدول ومواردها, ثرواتها, أراضيها وامتيازاتها إلى مزارع خاصة للطبقات الحاكمة, حاشيتها السياسية ونخب اقتصادية تتحالف لاقتسام المغانم, بما فيها احتكارات وكالات حصرية.
وهكذا تنفرد أقلية بإدارة الفرص وتوزيعها بعيدا عن ولاية المجتمع, أولويات الناس والمؤسسات المنتخبة.
هذه المعادلة تمأسس ل¯ "عقد اذعان" بدلا من "عقد اجتماعي طوعي", كما هي الحال في الديمقراطيات المنتخبة ذات التنوع الاقتصادي المتكئة على قاعدة ضريبية تصاعدية واحترام رأي المواطن في الحياة السياسية وإدارة الثروة الوطنية.
باختصار, الأنظمة الريعية تنسف التوازن بين العمل المنتج والدخل المتأتي منه. فهي توفر البيئة لاقتصاد خاص تطغى فيه الزبائنية على الإبداع ويفرز نخبة طفيلية تعمل بعقلية ريعية بدلا من الاستثمار, المجازفة والمطالبة بالتحديث الشامل. ذلك يفضي إلى إفشال خطط خلق فرص عمل, يعمق الفساد ويفاقم فروق الدخل, ما يشكل أكبر تحد لشرعية الدولة; ريعية أم شبه ريعية.
لا تنمية اقتصادية في غياب التنمية السياسية. فالحلقة مترابطة. ولدافع الضريبة الحق في الاعتراض على سياسات المسؤولين والمطالبة بفصل السلطات وتداول السلطة عبر صناديق الاقتراع محصنا بآليات المساءلة والمحاسبة.
فالاصلاح يبدأ بالتشكل الصحيح حول موارد الدولة, نهج إدارتها ومقاربة الأعمال. لنتذكر أن الإصلاح المتكامل يقوي الجبهة الداخلية ويوفر لصانع القرار فرصة اتخاذ قرارات أكثر استقلالية تتماهى مع المصالح الوطنية بدلا من تنفيذ سياسات لخدمة أجندات الجهات المانحة.
مدير عام مؤسسة الضمان الاجتماعي السابق د. عمر الرزاز يرى أن مناعة الدولة تنبع من قدرتها على حماية كيانها ومصالحها. ويشرح بأن القاعدة الضريبية السليمة - أساس منعة الدولة- تتغذى على قوتها الاقتصادية المعززة في دولة القانون, المؤسسات والمواطنة. وفي دراسة شارف على إنجازها للمنظمة العربية لمكافحة الفساد برئاسة سليم الحص, يتحدث الاقتصادي المتحدر من عائلة حزبية-سياسية-نضالية عن ضرورة تضافر سبعة عوامل قبل الانتقال من دولة الريع إلى الانتاج والعدالة.
الدراسة تحت عنوان. "من دولة الريع الى دولة الانتاج والعدالة: نحو عقد اجتماعي عربي جديد", تفصّل شروط الانتقال إلى مصاف دول الاكتفاء الذاتي من خلال تفعيل شرائح المجتمع غير الفاعلة; لا سيما عنصر الشباب- رهان المستقبل.
- التحول الديمقراطي وفصل السلطات. تضييق الفجوة بين ما يسعى إليه النظام وما ينشده المجتمع عبر بناء مؤسسات ديمقراطية تستند إلى أحزاب فاعلة, صناديق الاقتراع, آليات المساءلة والمحاسبة - فضلا عن تحرير الإعلام من قبضة السلطة والمال.
- إعادة الاعتبار لمفهوم الثروة الوطنية بحيث تديرها الحكومات بالإنابة عن المجتمع بهدف حمايتها وتعظيمها, على أن تحاسب على نتائج أعمالها.
- الانتقال من حاكمية الموازنة إلى المال العام. يسيطر المجتمع من خلال ممثليه على المال العام والموازنة, بما يضمن استيفاء العوائد الريعية من الروافد كافة, الشفافية في إعداد الموازنة العامة تحت رقابة النواب, وتحديد أولويات الانفاق.
- الانتقال من الاقتصاد الخاص الريعي إلى التشغيلي الانتاجي عبر وضع الريع في صلب سياسات التنمية المستدامة, واستخدامه على نحو أمثل لتعظيم الثروة الوطنية, هذا يتطلب أيضا إخراج الريع من التداول الاستهلاكي وتركيز الاستثمار في البنية التحتية لاقتصاد إنتاجي, مع توجيه السياسة الاستثمارية نحو تعظيم فرص التشغيل, زيادة الانتاجية وحصة الأجور في الناتج الكلي. يواكب ذلك تحفيز القطاع الخاص على تحريك ولعب دور تنموي واجتماعي.
- الانتقال من عنصر بشري مذعن إلى خلاق. فالإنسان هدف التنمية ومحركها في آن. لا تنمية من دون أجواء الحرية, حقوق وثقافة ديمقراطية.
- الانتقال من محاصصة الريع إلى إعادة توزيع الدخل والحماية المجتمعية. فغالبية الدول العربية تنزع لحشو القطاع العام, دعم السلع الأساسية والمحروقات, توفير التعليم والصحة بتغطية ونوعية متفاوتة, ربط الانتاج بالدخل الريعي من خلال الوكالات, الشركاء المحليين والكفلاء, وأيضا دعم اسواق العقار والاسهم. هذه المقاربة راكمت ثروات وفروق هائلة في الدخل من هذه المصادر غير الخاضعة للضريبة.
- الانتقال من تشرذم سياسي عربي إلى تكتل سيادي مؤثر قادر على الدفاع عالميا عن مصالح الكتلة الاقتصادية والسياسية عبر موازنة المصالح الاقليمية ضمن مؤسسات ديمقراطية على المستوى الوطني.
الفجوة الطبقية وتركيز الثروة في المجتمعات العربية بسبب النشاط الريعي غير الانتاجي ساهما في اندلاع الصحوة العربية.
سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه اختزل هذه الحال بمقولته: "ما رأيت غناء فاحشا إلا وبجانبه حق مضيّع".
خلال الشهور الماضية, خلع زين الدين عابدين بن علي وحسني مبارك ومعمر القذافي, بينما يستخدم بشار الأسد وعلي عبد الله صالح السلاح والترهيب ضد شعبيهما لإطالة عمر"عرشيهما". وفي ملكيات كالمغرب, الأردن والبحرين, قرّر قادتها إطلاق إصلاحات شاملة لاستباق تداعيات الربيع العربي التي تطرق أبوابها.
لكن الخطر الرئيسي يكمن في بقاء منظومة الريع وإعادة انتاج نفسها وإن بوجوه جديدة مع تحسن طفيف في الممارسة الانتخابية. فالسلطات الجديدة في دول التحول تجد نفسها أمام المعضلة ذاتها, لذلك تواصل سياسة الدعم وضخ الاموال في النفقات التشغيلية لإسكات الشارع. وهي تخشى اتخاذ قرارات صعبة غير شعبية مع أنها تدرك حتمية دمقرطة الاقتصاد وضمان تغييرات جذرية إذا ارادت إدامة الأمن والاستقرار.
على الطرف الآخر تقف الغالبية الشبابية, الطامحة إلى فرص عمل والخروج من دائرة الفقر, التهميش والفساد. يشعر الشباب المصري, حال أقرانهم في تونس بخيبة أمل لأن أوضاعهم الاقتصادية لم تتحسن كثيرا منذ الاطاحة بزعيمي البلدين ويتطلعون إلى فرص أشبه بالسراب.
معدل البطالة في مصر صعد من 9% عام 2010 الى 11% هذا العام, وفي الاردن ارتفع 0.5% وصولا إلى 13%, ذات المعدل الذي سجلته تونس على وقع أجواء عدم الاستقرار السياسي والأمني. في المحصلة, ستضطر الحكومات المثقلة بالديون وبطء عجلة الانتاج لزيادة الانفاق التشغيلي, وقد تبطىء الاصلاحات الاقتصادية وتسرّع مسار الاصلاحات السياسية.
مؤسسة التمويل الدولي والبنك الاسلامي للتنمية توصلا في دراسة مشتركة إلى أن المنطقة ترزح تحت أعلى معدلات بطالة بين الشباب على مستوى العالم. الدراسة تظهر أن شابا من كل أربعة يبحث عن عمل وشابة من كل ثلاث لا تجد فرص. لمنع انزلاق الوضع الحالي إلى درك أسوأ, تحتاج الدول العربية إلى خلق 35 مليون وظيفة بحلول عام .2020 وعليها رفع هذا الرقم 50 مليونا - 15 مليونا إضافية- فقط لتخفيض النسب قليلا, وللوصول إلى المعدلات الدولية المقبولة, يتطلب ذلك خلق 85 مليون فرصة عمل خلال العقد المقبل.
على أن المؤسسات الدولية تتوقع استمرار الركود للأشهر ال¯ 18 المقبلة قبل أن تعود إلى معدلات ما قبل الثورات. وستضطر الحكومات لاستنزافات اضافية ما يؤثر سلبا على عجز الموازنة.
لكن هناك بصيص أمل بأن تنجح الحكومات التي ستنتخب في مأسسة إدارة موارد شفافة مدعومة برؤية أوضح. بالتأكيد ستحرص المؤسسات المنتخبة على استعادة الأمل عبر تسليط الضوء على محاسن الإصلاح الديمقراطي وتحويل التحديات الديمغرافية الى فرص.
من هذا المنطلق, على قيادات دول الشروع في إصلاحات سياسية واقتصادية جوهرية لترميم جسور الثقة مع الشارع, بما يعطي المواطن حق الإشراف على المال العام والثروة الوطنية (العناصر الخمسة الاُولى في نصائح الرزاز أعلاه). يقترن ذلك ببناء أدوات إعادة توزيع الدخل بعدل وتوازن قبل أن تطالب الحكومات مواطنيها بالتخلي عن مكتسباتهم المحدودة من النظام الريعي (العنصر السادس).
rana.sabbagh@alarabalyawm.net
(العرب اليوم)