نهرب من الحياة اليها, فطوال اجازات مضتن ظلت الاغوار ملاذنا الآمن وهروبنا نحو الطيش وممارسة الجنون, منذ دراستنا الابتدائية علق في ذهننا مكانان, صيفا نحو جرش وعجلون، وشتاء نحو الاغوار والبحر الميت، كان باص الرحلة يضيق بالصغار العابثين وبزواداتهم المليئة بالزيتون والبندورة والخبز وبعض جبنة المثلثات, وكنّا نحمّي رأس السائق بالغناء له كي يدوس على البنزين «عالمية وتسعة وتسعين», كنّا نفترض ان هذه هي السرعة القصوى التي يمكن ان يصل اليها خيالنا.
كبرنا وبقيت الامكنة تذكرنا بطفولتنا, كم كانت بريئة وكم كانت احلامنا بسيطة ونقية, كان قرار الرحلة يتطلب حساب ميزانية الاسرة قبل التهور وإمضاء ورقة للمدرسة من ولي الامر يخلي فيها مسؤولية المدرسة من اي حادث يقع, كان الاساتذة يمحون ما علق في ذاكرتنا من عصيّ وكفوف طوال العام الدراسي, كانوا ودودين وآباء او اخوة كبارا.
كبرنا وكبرت الامكنة حتى خلناها لا تعرفنا ولا نعرفها, احتل الاسمنت شواطئ البحر الميت ونمت غابات اسمنتية مكان منتزه جرش الذي كنّا بالعادة نتناول فيه طعام الافطار قبل ان نصل عجلون للغداء, صار الذباب عدائيا وصارت الحرارة تلهب الرؤوس, وصارت الرحلة الى البحر الميت تتطلب دراسة جدوى وليس قراءة الميزانية الاسرية.
السرعات باتت مهولة وسيارات تجتاح الاجساد وتتركها على قارعة الطريق جثثا متناثرة, حتى عظامنا باتت هشّة تنكسر من مجرد عثرة صغيرة رغم ان زواداتنا باتت مكتظة باللحوم والدجاج الذي كنا نعرفه يوم الجمعة فقط, واخلاقنا تضيق ورؤوسنا تحمى ليس لاغنية بريئة كما كانت رأس السائق, رغم اتساع الارقام ورحابة الدنيا.
كانت الدنيا صغيرة على حجمنا وكان رغيف الخبز كبيرا, اليوم صارت الدنيا كبيرة ورغيف الخبز صغيرا, ربما هذه هي الازمة, وربما بتنا نخاف الارقام التي نسمعها ونقرأ عنها بين ظهرانينا, كانت سيارة السرفيس اسرع من الباص قليلا فنلجأ لها عند العجلة, الان التفاوت في السرعات كبير جدا وهناك تكسي مميز واخر مثل حبة الترمس وكذلك الدخل, كان المقياس في الثراء ابن منكو وابن شومان , الان لا يوجد مقياس نحتكم اليه.
لا نطالب بأن تعود الدنيا كما كانت, بل نطالب ان تتأنسن الدنيا كما كانت, ان نعود نحن كما كنا, أن نعود شعبا بسيطا طيبا, يغضب من اجل الجار والوطن, ويغضب من اجل شجار طفلين واختلاف على حجم الشباك وارتفاع السور بين الجارين, نريد ان نستعيد عافيتنا الانسانية حتى في الخلاف والشجار.
لا نطالب ان تعود «الليرة» الى بهاء قوتها, ولكن ان تكفي فقط لافطار بسيط لا لغداء اسرة بحالها, ان يعود الراتب معاشا وليس مجرد ارقام تنازلية تسقط مثل اوراق الخريف امام رياح فواتير الكهرباء والماء, نريد ان نستعيد حياتنا ببساطة لا ان نتصارع على كل شيء من البلدية الى طابور السرفيس والباص.
لماذا نسأل من اي جاء للاردنيين كل هذا الغضب؟.
(الدستور)