يبدو أن نظرة تأملية واحدة تكفي لتوصيف المسار السياسي العربي الراهن بأنه ردّة واضحة المعالم على النهج "التقدمي "الذي ساد الكثير من أقطارنا العربية منذ بدايات استقلالها حتى أفول نجم المعسكر الشيوعي في بداية تسعينيات القرن الماضي وبروز الصحوة الإسلامية وأخيرا مجيء ما اخذ يعرف ب"الربيع العربي" .

خرج هذا المصطلح" التقدمية " من تحت عباءة الفكر الماركسي منذ انتصار الثورة البلشفية في روسيا في بدايات القرن الماضي واخذ يضفي فلسفته المادية الجدلية على نقيضه فنعته ب"الرجعية" ؛ ذلك أن التفسير المادي للتاريخ وفقا لهذه النظرية ينتهي إلى الوصول إلى الاشتراكية ومن ثم تطبيق الشيوعية في سياق الحتمية التاريخية في حين فان "الرجعية" تعاكس هذه الحتمية التاريخية وتعرقل مسارها لذا نعتها ب" الرجعية " وانضوى تحت لواء هذا التوصيف"الماركسي " كل الأنظمة الرأسمالية والمحافظة في العالم ومن يسير في ركبها .

لقد انعكس هذا الوضع عربيا منذ عهد الاستقلال , ولان الاتحاد السوفيتي ومنظومته الاشتراكية ترى في الاستعمار عرقلة للوصول إلى هذه الحتمية التاريخية تبنت هذه المنظومة حركات التحرر في العالم ضد الاستعمار الغربي بعد الحرب العالمية الثانية ومنها حركات التحرر العربية لذا ارتبطت الكثير من الأنظمة العربية منذ نشأتها الأولى بالماركسية والاشتراكية وأضحت "التقدمية " رسالتها الإنسانية ومعيار حكمها على الآخر وأخذت تنعت الأنظمة العربية التي بقيت محافظة أو مرتبطة بالرأسمالية ب"الرجعية" وعشنا فترة النصف الثاني من القرن الماضي صراعا عنيفا بين أنصار "التقدمية" وأنصار "الرجعية " , وأججت الثورة القومية الناصرية في مصر في بدايات النصف الثاني من ذلك القرن - حيث ارتبطت بالاشتراكية وبالتالي أخذت تدور في فضاء المعسكر التقدمي - الصراع بين الفريقين , حيث التجأت "الرجعية العربية" إلى الرأسمالية الغربية وارتمت بأحضانها امنيا وسياسيا وثقافيا مقابل الغزو الماركسي الاشتراكي "للتقدمية " مما خلق حالة من الصراع وصل إلى حد التناحر فألقت الحرب الباردة بظلها على سماء العروبة , وانزوت العروبة المحافظة والطاهرة النقية في عمان والرياض والرباط وأصبحت القاهرة والجزائر ودمشق وبغداد وطرابلس مهد التقدمية العربية ومحجها , حيث طبقت المنهج الشمولي( الاشتراكي ) في الاقتصاد والسياسة والاجتماع .

لقد عاش الإنسان العربي ثقافيا وسياسيا في حالة انفصام تام وحدث له حالة اغتراب أبعدته عن أصالته الثقافية والعقائدية فاخذ يبحث ويفتش عن النجاة فسلك سبلا فجاجا بدءا من "التكفيرية "وحتى "السلفية العلمية" التي رأت في الدليل والأثر الشرعي نجاة الأمة فأطلقت على نفسها "الفرقة الناجية"

لقد أثرت الممارسات الماركسية والاشتراكية من جانب والليبرالية الغربية من جانب آخر على الثقافة العربية وألقت بظلها وظلالها على مزاجية الإنسان العربي الذي رأى في المسلكين تشويها وفصلا تعسفي يرقى إلى مستوى "الإبادة الثقافية" والعقائدية لشخصيته الروحية فارتد نحو ماضيه التليد ليجد نجاته في "الردة" والثورة على المسلكين "التقدمية " و"الرجعية "المرتبطة بالظاهرة الرأسمالية بمفهومها الشمولي ؛ فأنتج هذا الإنسان المقهور "الربيع العربي " في البلدان العربية التي لبست عباءة "التقدمية " , وساعدته في ذلك وسائل الإعلام والتطور في تطبيقاتها المختلفة , فسقطت "التقدمية" ونجت "الرجعية " العربية في الرباط وعمان والرياض لأنها أثبتت بمعايير العصر والعلم والنور أنها هي "التقدمية " والآخر هو الظلامية والقهر والاستعباد؛ فهل آن الأوان لضبط مصطلحاتنا الفلسفية والسياسية وفقا لإيقاع العصر ؟!

Atefrafou62@hotmail.com