البلدية في القراءة العصرية .. !
أ.د عمر الحضرمي
12-10-2011 04:27 AM
القانون الفرنسي، الذي صدر في 14/12/1789، هو الذي استعمل، قبل غيره، مصطلح «البلديّة، بعد أن قرر أنه سيكون هناك «بلدية في كل مدينة أو برج أو مجموعة ريفيّة». وقد أكّد تعبير مشترع عام 1795 الذي أنشأ ما عرف «ببلديات المقاطعات» هذه التسمية.
والبلدية في الفقه الاجتماعي الأوروبي هو التعبير السياسي عن الاقتراع العام المطبق في الانتخابات البلدية، من حيث أنها تترجم إرادة أكثرية المواطنين. وبهذا المعنى يجري الحديث عن منطقة ذات اتجاه يساري وأخرى ذات اتجاه يميني. وهنا تتحدث القوانين الداخلية الفرنسية عن مفهوم «الدسكرة»، وهي كما حددها الدستور الفرنسي القديم، وفي مادته الثانية والسبعين، بالشُّعب أو الأقاليم. وهي تؤمّن، على الصعيد الدولي للتنظيم الإداري، سير عمل بعض مرافق الدولة (أحوال شخصية، وإحصاء، وخدمات عامة). وهي، وهذا هو الأهم، الدائرة الأولى التي يتمكن المواطنون فيها، مباشرة أو بواسطة من انتخبوهم في المجلس البلدي، من أن يدبروا، بحرية، شؤون جماعاتهم. وهي بهذه الصفة، تعتبر خلية أساسية للديمقراطية، إذ أنها تملك الحق في أن تدير شؤونها بنفسها بحرية عن طريق مجالسها المنتخبة.
وفي التجربة الأردنية لمفهوم «البلدية»، التفاتة مهمّة وردت في نص القرار التاريخي الذي صدر يوم السبت 23 جمادي الآخرة سنة 1365 هجرية الموافق 25 أيار سنة 1946 ميلادية، والذي أُعلن بموجبه ميلاد المملكة الأردنية الهاشمية دولة مستقلة استقلالاً تاماً مع البيعة بالمُلك لسيد البلاد ومؤسس كيانها عبدالله بن الحسين المعظم. ففي ديباجة القرار جاء «تحقيقاً للأماني القوميّة وعملاً بالرغبة العامة التي أعربت عنها المجالس البلدية الأردنية في قراراتها المبلغّة إلى المجلس التشريعي، واستناداً إلى حقوق البلاد الشرعية والطبيعية وجهادها المرير، وما حصلت عليه من وعود وعهود دولية رسمية، وبناء على ما اقترحه مجلس الوزراء في مذكرته رقم 531 تاريخ13 جمادي الآخرة سنة 1365 الموافق 15 أيار سنة 1946، فقد بحث المجلس التشريعي النائب عن الشعب الأردني أمر إعلان استقلال البلاد الأردنية استقلالاً تاماً على أساس النظام الملكي النيابي».
وموضع الشاهد هنا أن إعلان الاستقلال للدولة الأردنية قد جاء ابتداءً بقرارات المجالس البلدية، وهذه إشارة دقيقة وهامّة إلى معنى «البلدية» ومفهومها. فالبلدية ليست مكاناً يتجمع فيه أعضاء ليتبادلوا فيه أحاديثاً عابرة، أو ليناقشوا قضايا النظافة أو المظهر العام للبلدة، إنما البلدية هي التعبير الأول والأوسع والأهم لمعنى «الصوت» ولتحديد مفهوم «الانتخاب» والاختيار. إضافة إلى أنه ممارسة فعلية ومباشرة وقادرة على المحاسبة والمراقبة والمساءلة المباشرة. إذ أن المجلس البلدي هو الذي يعيش يومه مع الناس، وهو الذي يستمع لقضاياهم ويتحسس شؤونهم ويرصد متطلباتهم، وهو الذي يلبي احتياجاتهم الأساسية. لذلك فإن مفهوم البلدية يجب أن يعود إلى أصوله في الذهن الاجتماعي الأردني، كونه المرتكز الأول الذي استند إليه إعلان استقلال البلاد.
ومن هنا فإن قرارات مقاطعة الانتخابات البلدية أو الاستهانة بها هي قرارات، في صلبها وفي تفصيلها، قرارات غير صائبة لأنها تغيّب متعمد عن خدمة الناس وبالتالي إدارة الظهر إلى التعامل مع مفردات حياة الدولة.
(الرأي)