قبل أيام أكمل الباشا سميح بينو عامه الاول على رأس هيئة مكافحة الفساد, نكش خلاله عش دبابير في وطن يخوض معركة شرسة ضد منظومة فساد- برعاية الحكومة والبرلمان- وشعب لن يهدأ حراكه على الارجح, ولن يرتضي طي صفحة أخطاء الماضي ما لم ير رموز فساد خلف القضبان.
فالاردنيون ينتظرون طحنا بعد جعجعة الوعود حول محاربة الفساد في قطاعات الدولة, سيما أن ذلك أثر على سمعة بلدهم داخليا وخارجيا, حجم الاستثمار وحقوق دافعي الضرائب والمساهمين.
حتى الآن نتجاهل الاقرار بأن الفساد بات ملف الرأي العام رقم واحد بلا منازع في الربيع الاردني. جمود هذا الملف يدفع باتجاه تصعيد الحراك الجماهيري والحزبي المطالب باجتثاث الفساد خلال قادم الايام, بعد طغيان مشاعر الاحباط على وقع تعمق الانطباعات بأن الاصلاحات الدستورية كانت شكلية وملهاة لم تساعد على تعزيز مبدأ الشعب مصدر السلطات.
ما حصل في جمعة "الحشد" الاخيرة خير شاهد على ذلك. شارك الالاف في أول مسيرة تنظمها الجبهة الوطنية للاصلاح منذ اشهارها في أيار برئاسة رئيس الوزراء ومدير المخابرات الاسبق أحمد عبيدات تحت عنوان "الاصلاح السياسي سبيلنا لاجتثاث الفساد". خلال المسيرات تطايرت هتافات خرقت السقوف السياسية. كما رفعت يافطات بأسماء شخصيات يشك في تورطها بقضايا فساد, وذلك في تحد واضح لقرار السلطة سلق المادة 23 من قانون هيئة مكافحة الفساد عبر بوابة مجلس النواب قبل أن يفتح مجلس الاعيان صمام أمان متأخرا, تمثل في ترحيل مشروع قانون يغلّظ العقوبات على اغتيال الشخصية إلى الدورة العادية أواخر الشهر الحالي. طبخة الاعيان السريعة بدت وكأنها تحد واضح لرغبة مرجعيات عليا ترغب في حماية الفاسدين.
بالتزامن, يتعرض الباشا بينو ومفوضو هيئة مكافحة الفساد لضغوط استهدفت تبطيء معالجة ملفات سياسية حساسة مثل "موارد", "شاهين" غيت وغيرها. كما أن هذه الهيئة ما انفكت تواجه حملة تشكيك منظمة من جهات سياسية, بيروقراطية, اقتصادية ونخبوية تشعر أن مكافحة الفساد باتت تضرب بيد من حديد في منحى جدي- ربما لأول مرة منذ تأسيسها عام 2007- من دون ان تحسب حسابا لأحد.
تُتهم هذه الهيئة بأنها تلعب بملفات أكبر منها, تعادي القطاع الخاص وتفزع مستثمرين محتملين بعد فتح ملفات شركات القطاع الخاص وأخيرا المساهمة العامة. ويحمّل المشككون هيئة مكافحة الفساد مسؤولية غوص السوق المالية تحت المؤشر الاحمر بفعل ترنحه تحت هزات متلاحقة, مع ان القاصي والداني يعرف أن المال النظيف يبحث عن فرص استثمارية في بلاد تتمتع بهيئات رسمية فاعلة لمكافحة الفساد وغسل الاموال, تنعم بفضاء قضاء مستقل, إعلام يمارس دور السلطة الرابعة ومجتمع محصن بقيم عالية وهذا متوقع.
الباشا بينو, النائب السابق, قضّى معظم حياته المهنية في خدمة دائرة المخابرات العامة, حيث أسس دائرة لمكافحة الفساد منتصف تسعينيات القرن الماضي. وهو يدرك أن الطريق أمام عمل الهيئة طويلة مليئة بالعقبات في عصر تداخل الحكومة بالبرلمان والقضاء والاعلام وتشابك السلطة بالبزنس, وهي حال مشوار الدولة في مكافحة الفساد.
لكنه مصمم على الاستمرار- رفقة زملائه المفوضين- احتراما لصدقيته الشخصية كرجل وطني مشهود له بالنزاهة, امتثالا لتوقعات المواطنين وقبوله بتنفيذ أوامر ملكية سمعها الجميع منذ شهور بأن ايا من مراكز النفوذ لم يعد محصنا, بمن فيهم العاملون في الديوان الملكي.
يحاول رجل الاستخبارات والتشريع مسك العصا من المنتصف: حماية الاستقرار الاقتصادي, سمعة الاردن والامن المجتمعي من جهة وتنظيف البيت الداخلي والمساعدة على قنص اللصوص. إنها مفارقات صعبة. لكن لا مجال للمراوغة أو المفاضلة, بحسب ما يؤكد بينو في مقابلة مع كاتبة المقال قبل أيام.
المشكلة الكبرى تكمن في أن سقف توقعات الاردنيين بات أعلى بكثير من دور الهيئة وصلاحياتها. فالكثير منا لا يعرف أن دورها يقف عند تحويل ملف شبهة الفساد إلى السلطة القضائية (المدنية والعسكرية) أو النواب (في حال التخاصم مع وزراء حاليين أو سابقين). ذلك يأتي بعد إخضاع مئات الشكاوى والتبليغات لعملية فلترة لفرز أي شكوى كيدية وجمع المعلومات والادلة التي تثبت شبهة فساد.
بين 1/10/2010 و6/10/2011 تعاملت الهيئة مع 812 شكوى, 428 منها قيد التحقيق. أحيلت إلى المحكمة المدنية 95 قضية, قضيتان لمحكمة أمن الدولة من خلال مدعي عام الهيئة, ولمجلس النواب قضيتان (الكازينو وسكن كريم). في المقابل, حفظت 267 قضية لعدم ثبوت شبهة فساد فيما صوّبت أوضاع 19 قضية.
هذه الانجازات تعني الكثير بالنسبة للباشا والعاملين معه, مع أن المشككين يقللون من تأثيرها.
الانجاز الاهم خلال العام الماضي, بحسب الباشا, يكمن في سعي الهيئة لإعادة ثقة الناس فيها, تفعيل دورها في الحركة الاصلاحية الدستورية وتحويلها إلى شريك يساهم في حماية الاقتصاد من خلال إصدار مذكرات حجز على أموال ومنع سفر شخصيات ملفاتها قيد التحقيق. كما ساعدت على كشف حالات فساد في القطاع الخاص وداخل الشركات المساهمة العامة, في بلد ربطت غالبية سكانه ممارسات الفساد بالقطاع العام فقط.
تحقق الكثير. من منا كان يتوقع أن يأتي يوم نستمع فيه إلى شهادة رئيس وزراء وهو على رأس عمله, توجيه استفسارات لوزراء عاملين, استدعاء كبار شخصيات عالم المال لاستجوابهم وتوقيف رجال أعمال ورئيس بلدية كبرى لحين صدور حكم القضاء.
نجحت الهيئة أيضا في تعديل قانونها لزيادة فعاليتها ومواءمة أحكامه مع نصوص اتفاقية الامم المتحدة, بما في ذلك تجريم ممارسات مثل الرشوة في القطاع الخاص والشركات المساهمة العامة, وضمان حماية المبلغين والشهود. على أن الامور تقاس بالنتائج. فأعين الاردنيين تراقب الحراك وتترقب جندلة رؤوس كبيرة ارتبطت أسماؤها بملفات فساد.
لغاية اليوم لم تفلح الهيئة في نيل صلاحيات تؤهلها الاطلاع على حسابات خاصة بمن يحقق معهم بشبهة فساد مع أن اصغر مدعي عام في المحكمة قادر على طلب ذلك. وتنتظر الهيئة صدور قانون "من أين لك هذا". الملفات والاوراق مكدسة بعلب كرتون في مكاتب الهيئة بانتظار البت فيها وإحالتها إلى الهيئات المختصة.
بالطبع لا تعمل الهيئة وحدها. فهي تحتاج إسنادا نيابيا, قضائيا وإعلاما متيقظا. وهي ليست مسؤولة عن تصرفات الحكومة وجهات أخرى تنادي بتسريع الاصلاحات السياسية ومحاربة الفاسدين لكنها تمارس نقيضه. كما أن درجة المهنية المطلوبة لتعقب المال وتبيان ما هو حرام وحلال شبه معدومة لدى الاعلاميين. وثمّة مواقع الكترونية امتهنت الابتزاز وتلوح باغتيال الشخصية ما يستدعي إعادة تنظيم هذا القطاع من الداخل, لقطع الطريق على حجج لتكميم أفواه الجسم الاعلامي ككل.
في غمرة الاجواء المليئة بالتشكيك, يبدو أن تكاثر أزمات إدارة الدولة في اكثر من اتجاه بات يربك المشهد العام ويعمّق انطباعات بأن الدولة تريد سن إصلاحات على مقاسها بعيدا عن مطالب الشعب, أو تواصل لعبة شراء الوقت لحين تبيان تداعيات الثورات العربية, تحديدا في سورية. في ضوء هذا التردد, لم تدم سوى ساعات بهجة الاحتفال بتوشيح التعديلات الدستورية بإرادة ملكية.
الامثلة كثيرة على "تخبيص" مراكز صنع القرار. منها طريقة تعامل مجلس النواب مع التعديلات الدستورية, الاوامر التي تلقوها بالهواتف أثناء مناقشات مهمة مسّت صلاحيات الملك, العطايا والمكارم التي أحيتها الحكومة مع النواب والمواطنين المتنفذين في مناطقهم لشراء ولائهم. أضف إلى ذلك غياب الرغبة في قيام دولة حديثة على اسس المواطنة, إقالة محافظ البنك المركزي فارس شرف بصورة بدائية ومهينة, وآخرها التعامل مع الانتخابات البلدية التي تعد بروفة للانتخابات التشريعية.
يستمر مسلسل التخبط بين رسم السياسات وتنفيذها ما يحبط الامل بمكافحة الفساد والفاسدين. لذلك لن يخف حراك الاردنيين الا بالتضحية برؤوس تتقافز أسماؤها على الألسنة في كل المسيرات. لكن كيف ستتصرف مفاصل الدولة الرسمية مع تحدي محاربة الفساد كمدخل لتعزيز شرعية السلطة وإقناع المتابعين بجدية نوايا وعود الاصلاح السياسي والاقتصادي الاشكالية? بعد اليوم, لن ينفع رهان المتنفذين على شراء الوقت لإرغام الناس على قبول المثل الشعبي: "حفّار دفان" أي أقبلوا بفتح صفحة جديدة دون محاسبة الماضي.
rana.sabbagh@alarabalyawm.net
(العرب اليوم)