من واجب الكاتب أن يريح القارئ، وأن يبسط ويسهل، لا أن يُعقد في المصطلحات، فإن أعظم إنجاز له، هو إيصال المراد بوضوح لا لُبس فيه ولا تأويل، ولا شكوك ولا ظنون، ولا شتات في التفسير والتحليل ولا كثرة في الاحتمالات والافتراضات، فنحن في زمان يطلب الكلام المباشر سريع الفهم، كسبا للوقت وجلبا للمنفعة، ودرءًا للمظلمة، فقد سئمنا التنظير والإطالة والمراوغة، وحتى أهل الرياضة نادَوا بإلغاء لعبة شد الحبل عندما اكتشفوا أخطارها على الإنسان فردا وعلى الفريق جمعا وعلى المشاهد ايضا، فنقول: إن الحق نجاة من العثرات والكبوات للوطن والمواطن.
الكربال والغربال والمنخل، أدوات يستخدمها أهل القرى، وهي موجودة في معظم المنازل، بواسطتها يستطيع المزارع فصل القمح عن الشوائب مثل الحصى وغيره الكثير، وهي متدرجة بحجم المسامات بها وأصغرها المنخل الذي به تصفو كل الشوائب، والغاية منها الحصول على غذاء نقي صافي، يبرئ الجسد من كل علة، ويحافظ على مجتمع صحي، لا تغزوه الأمراض فهي وإن كانت أدوات بدائية إلا أن فائدتها ونفعها قد فاق ما أنتجته الحياة العصرية وصناعاتها المتعددة المتطورة، فالماضي كله جميل وكله طيب من الفطرة بدأ والى الفطرة يعود.
الكربال والغربال والمنخل،(هم أزمات الوطن)، فالأزمات هي مصافٍ لفرز أبناء وبنات الوطن، لتضعهم بثلاث قوائم، أولاها قائمة الطاهرون الصادقون الأبرار وهم أهل العقيدة والوطنية، أهل المبادئ والثوابت أهل الفكر والعلم، أهل الخبرة والتجربة، أهل الشجاعة والإقدام، أهل المروءة والكرم، نبلاء أهل الهمة، يتصدون للمصاعب مهما عظمت، عزمهم لا ينثني، لا يبخلون على الوطن بعطاء ولو كان دماءهم ودماء أبنائهم، عن طيب خاطر وعظيم محبة وعمق إيمان. أما الثانية فهي قائمة أهل الفساد، هم أهل التسلق والتملق، أهل المنافع والمصالح، أهل الفتنة، حيتان لا تشبع بطونهم من المال الحرام، ولا تتوقف ألسنتهم عن الكذب والإيذاء، أسهل ما عليهم شهادة الزور والبهتان، لا يتورعون عما يفعلون، لا يردعهم ضمير ولا وجدان، يستحلون الحرام لجمع المال والثروات، على حساب الفقير المدقع فقرا، والجائع المعوز .
أما الثالثة فهي أهل النفاق، الذين يقولون ما لا يفعلون، الذين يتلونون بألوان الطيف، ويتقنعون بأقنعة الزيف والريبة، كل طرف يحسبهم أصدقاء وهم ألد الخصام، الراقصون على الحبال، العازفون على الأوتار، لا يطربون إلا على أصواتهم، لا تستقر خرزات عيونهم لرصد الأبرياء، فهي وسيلتهم لاصطياد ما تهوى نفوسهم النامية على الخبث والمكر والدهاء.
القائمة الأولى، وهم الأكثرية بحمد الله أشراف أبناء وبنات الوطن، في سيرتهم وأدبهم ينابيع الفضيلة، التي تروي ظمأ كل عطشان، وأخلاقهم مثل يحتذى، أفعالهم صادقة وقلوبهم طاهرة، عملهم دؤوب، بطولاتهم ترقى الى الاستبسال، همهم الأوحد بناء الوطن، كيف ينمو ويكبر، كيف تحيا الأجيال القادمة منشوة فخورة، بما فعل الأباء والأجداد، تزهو فخارا بهؤلاء الأباء المنتمون، وهذه الأمهات الفضليات الطاهرات، اللواتي عشقهن الوطن من زكاة أفعالهن، رؤومات على الإنسان والطير والحيوان، لا جزاء لهن ولا مكافأة إلا الانحناء والإحترام والدعاء بجنة الخلود.
أما القائمة الثانية، فالفساد وأهله هم خزي في الدنيا وذل في الآخرة، وهم الخاسرون دوما، فإن شبعوا وانتفخت بطونهم فطعامهم من زقوم، ولكن وجب ردعهم والتشهير بهم، وأن لا يأخذنا بهم خوف أو مواربة ومحاباة، فالضرب على يد الفاسد وكسرها إحياء لمئات الأيدي النظيفة التي ترفع أكف الضراعة لخالقها بالشكر والامتنان على ما أعطى وإن كان اليسير، أهل الفساد هم أثرياء الصفقات المخبوءة والمشبوهة، تجار الأزمات، منتهزو الفرص، وباؤهم خطير على إفقار المجتمع وعلى استقرار أمنه، فالفساد يصنع وراءه قلوبا حاقدة، تصمم على استرجاع حقها بالقوة والعزم والاندفاع الذاتي، دونما التفات الى نص قانون أو نتائج أفعال، فالمظلوم يطارد الظالم وإن طال الزمن.
أما القائمة الثالثة، أهل النفاق هي الأشد وطئاً والأعظم خطراً، والأكثر ألماً، أولئك اللابسون لثياب الوعظ، النازعون لها والمتبرؤون منها عند هبة ريح أو بروز أزمة، الذين تبقى عيونهم تنظر باتجاهين في آن واحد، عين على الشارع وعين على المنافع والمناصب، فبعض المسؤولين في هذا البلد، الذين تقلبوا على مناصب عدة ردحا من الزمن، وكنا نراهم في أيام الترف والرخاء، أيام الأمن والأمان، حين كانت السماء صافية، والمياه راكدة، نراهم ونسمعهم في الندوات والمؤتمرات والمحاضرات، وعلى شاشات التلفاز وصفحات الجرائد، منظرين، يسيطرون على أفكارالأمة، ويمطرونها وطنية وولاء وإنتماء، حتى حسبنا أن التاريخ سيخلدهم خلود الشهداء، ولكن وللأسف الشديد، عندما احتاجهم الوطن واشتدت أزماته، اختفوا!!! لا تصل إليهم العيون، ولا تسمع أصواتهم الآذان، فلا تقلق يا وطن فالخير بأهلك كبير وكثير، فإن غاب واحد فبديله ألوف، فالعزة بعد الله لك يا أغلى وطن.
نستمع الى أقوالهم في زمن الشمس المشرقة والربيع الزاهر، وانتظار المائدة العامرة بكل الصنوف، فيسلبون بأحاديثهم وأقوالهم وأفكارهم لباب العقل والقلب، ويمتطون صهوة الإقناع والإبداع، عيونهم تشع بالنور، ودماؤهم تقطر وطنية و ولاء، وعندما تشتد الخطوب تراهم صفر الوجوه، باسرة وجوههم كاشرة أنيابهم، حملانا وادعة، في أرواح أشباح النمور، تحركهم أهواؤهم وتنطقهم رغباتهم وهم في هذا الفلك يسبحون، غطاؤهم الوهم ووسيلتهم الاصطياد، يسقون أنفسهم رحيق العسل ويجرعون غيرهم المر والعلقم، بخلق الظلم والشللية البغيضة، هذه حقيقتهم الخفية التي يعيشون لها وعليها، وظاهرهم المصطنع أنهم رواد الأمة، الذين يرشدونها الى مواقع الصواب، ويحمونها من الانزلاق، ولكن عليهم أن يعلموا أن كل شيء بحسبان.
هؤلاء الذين إذا احتاجهم الوطن، قالوا قولة ذاك التونسي لقد هرمنا (مع فارق النوايا).
حمى الله الأردن وشعبه ومليكه.
abeer.alzaben@gmail.com
(الدستور)