فشل التسوية .. لا عزاء للغافلين ولا غفران للجهلة!
راكان المجالي
05-10-2011 03:21 PM
بعد عشرين عاماً على انطلاق "تسوية مدريد"، او ما اصطلح على تسميتها "عملية سلام الشرق الاوسط"، تتوالى خطب وتصريحات نعيها، سواء على هيئة "خيبات وخذلان وأسف"، او على هيئة "شماتة"، على المصير الذي آلت اليه جهود اطراف عديدة، محلية واقليمية ودولية، في الوصول الى تسوية تاريخية للصراع في الشرق الاوسط. فما معنى ذلك؟.
بعد عشرين عاما على مؤتمر مدريد 1991 تتجه كل الاطراف الى غسل يدها من المسار التفاوضي الفلسطيني الاسرائيلي للتسوية التي وصلت الى طريق مسدود مما دفع القيادة الفلسطينية للتوجه شهر ايلول الماضي للامم المتحدة للحصول على الاعتراف بدولة فلسطينية تحت مظلة دولية حتى لو كانت هذه المظلة ليست الا غربالا لا يظلل بعد ان افرغها الانحياز الامريكي والتعنت الصهيوني من أي مضمون.
لا يبدو الامر مفاجئاً لأحد في المنطقة. فالمخذولون والشامتون يبدون اكثر "حكمة" من اي وقت مضى، بشكل يجعل "الفشل"، كما هي العادة في المنطقة العربية، يبدو "لقيطاً" او مجهول النسب.
والحق ان التصريحات الفلسطينية الاخيرة لم تكن اول المؤشرات على الفشل الفعلي لـ"لعبة التسوية"، بقدر ما هي اعلان لأحد اطراف اللعبة، التي اخذت مؤخراً شكل المهزلة، عن عدم قدرته على الاستمرار في اللعبة، وفق شروطها السرية او المعلنة، لافتقاده لمعظم ادوات وعناصر الاستمرار فيها.
ففي مثل هذه الايام، من خريف العام 1996، وعشية فوز بنيامين نتنياهو رئيساً للحكومة الاسرائيلية للمرة الاولى (وللمفارقة في تشابه بين الامس واليوم، كانت الادارة الاميركية برئاسة بيل كلينتون، كما هي اليوم برئاسة باراك اوباما، وكلاهما من الحزب الديمقراطي، تقابلهما حكومة يمينية اسرائيلية بزعامة نتنياهو)، اوعز العاهل المغربي الراحل، الملك الحسن الثاني، الى "اكاديمية المملكة المغربية" لعقد ندوة عالمية، يشارك فيها عرب واوروبيون واميركيون واسرائيليون، للاجابة عن سؤال واحد هو: "وماذا لو اخفقت عملية السلام في الشرق الاوسط؟".
وللأسف، وعلى الرغم من اقرار معظم المشاركين باخفاق عملية السلام في الشرق الاوسط، وتوافقهم نسبيا في تشريح "جثة السلام"، الا انهم لم يتمكنوا من تحديد ملامح فعلية لما يمكن ان يحدث ما بعد عملية الاخفاق.
من عادته ان يعيد الفشل اصحابه، وحتى معارضيه، الى اول الاشياء، درساً وتفكراً وتفهماً وعبرة، الا في بلادنا. فالفشل الكبير يغرق الجميع في دوامة التفاصيل والملامة، وخصوصاً حكمة الادعاء الجوفاء: "ألم نقل لكم..؟".
فجوهر عملية "سلام الشرق الاوسط"، هو انها عملية سياسية، قامت الولايات المتحدة الاميركية بوضع "تصميمها"، ثم اطلقتها برعايتها، بمشاركة رمزية من الاتحاد السوفييتي السابق ثم روسيا الاتحادية. اما الهدف المعلن لها، فهو ايجاد حل للقضية الفلسطينية، وتسوية الصراع العربي الصهيوني، وصولاً الى سلام في المنطقة، يحكمه "نظام اقليمي جديد".
وقد باشر الراعي الاميركي، منذ انعقاد مؤتمر مدريد (1991) اجراء مفاوضات متعددة الاطراف، بهدف اقامة نظام اقليمي جديد، يكون لاسرائيل فيه مكان مميز، وهو "نظام الشرق الاوسط". وهذا النظام جرى اعداده في "معهد الشرق الاوسط" في جامعة هارفارد، خلال عقد الثمانينيات، ويتضمن ستة قطاعات اساسية هي: الاقتصاد، التسليح، البيئة، السكان، انظمة الحكم. وتوزيع الثروة. وهناك رؤية اسرائيلية وتصوّر حول كل قطاع من هذه القطاعات، لما ينبغي ان يكون عليه الوضع في المنطقة، والدور الخاص الذي يجب ان تؤديه اسرائيل فيه.
وهو ذات النظام، الذي عبر عنه شمعون بيريز، في مقال كتبه "بالعربية.."، بعنوان: "عصر جديد، لا يطيق المتخلفين، ولا يغفر للجهلة"، ثم قام بتطويره وشرحه في كتاب بعنوان "الشرق الاوسط الجديد".
وبالفعل، حشد الراعي الاميركي للعملية دعماً كبيراً، في اعقاب انعقاد مؤتمر مدريد، فأقنع ثلاثين دولة بالمشاركة في اجتماعات لجان المفاوضات، المتعددة الاطراف، المختصة بقطاعات انشاء نظام اقليمي جديد، واحاطها بأضواء اعلامية مكثفة. وما لبثت قوة الدفع الاميركية، لدفع ذلك النظام قدما، ان تضاءلت تدريجياً.
المنطلقات الاميركية لرعاية التسوية انطلقت من فرضيتين اساسيتين، لم تثبت صحة اي منهما حتى هذه اللحظة. الفرضية الاولى: هي ان مجرد الاتيان بأطراف الصراع، والجلوس على مائدة المفاوضات، كفيل بتوفير قوة دفع ذاتية لعملية التسوية، وايصال الاطراف الى اتفاقات. اما الثانية، فهي انه في حال تعثرت المفاوضات ، ووصلت الى طريق مسدود، فان بامكان الراعي الاميركي للمؤتمر التدخل من موقع "الحكم" لحسم الامر. وهي فرضية قدمها هنري كيسنجر، وزير الخارجية الاميركية المخضرم، في ورقة عمل بعنوان: "برنامج لما بعد الحرب"، مشدداً على ان "تتم عملية التسوية للصراع العربي الاسرائيلي بعيداً عن الامم المتحدة، كي لا تستدرج الولايات المتحدة الاميركية، بتأييدها اسرائيل، الى موقع الخصم، وان تتولى هي رعاية العملية مع الاتحاد السوفييتي، لتصبح حكماً".
ومن مفارقات البداية، التي تشبه مفارقات ما يسمونه الآن بالنهاية، ان اسحق شامير رئيس حكومة اسرائيل، الذي بدأ المفاوضات وشارك في مؤتمر مدريد، حين فشل في الانتخابات الاسرائيلية، وبعد تسعة شهور من الشروع في عملية التسوية، صرح: انه كان عازماً على ابقاء المفاوضات عشر سنين، والمضي قدماً، اثناء المفاوضات، في الاستيطان، حتى لا يبقى شيء يتفاوض عليه.(الدستور)
rakan1m@yahoo.com