ثلاث ضربات قاسية تلقتها "مصداقية" الإصلاح السياسي، وثقة الشارع بنوايا الحكومة، خلال الأيام القليلة الماضية.
الضربة الأولى بتداعيات "إقالة" فارس شرف، والإخراج الحكومي الرديء لهذا القرار. والثانية بإعلان جماعة الإخوان تعليق المشاركة في الانتخابات البلدية، ما يعكس سوء إدارة الحكومة للحوار مع القوى المختلفة. والثالثة ما عملته المادة (23) بقانون مكافحة الفساد، قبل أن يقرر مجلس الأعيان تأجيل مناقشتها، ما يمس الهاجس الشعبي في مدى جدية الدولة في مكافحة الفساد.
السيناريو الرسمي وأجندة الدولة تتمثل بالوصول في أسرع وقت إلى خطوات عملية على أرض الواقع، عبر الانتخابات البلدية والنيابية، لإنجاز مهمة الانتقال بالحياة السياسية لمرحلة جديدة عبر طريق ترسمه الدولة، ويغلق الباب على السيناريوهات أو الدعوات الأخيرة ذات السقوف المرتفعة، التي بدأت تظهر هنا وهناك.
التحدّي الذي يواجهه هذا السيناريو، يتمثّل باحتمال كبير لانتشار عدوى المقاطعة مرّة أخرى، كما حدث في الانتخابات النيابية 2010. فتبدأ القوى السياسية والاجتماعية تعلن عن مقاطعة الانتخابات ورفضها للخطوات الإصلاحية، وهو ما يفتح على أزمة جديدة أكثر صعوبة، بدلاً من أن تكون هذه الخطوات مفتاحاً للخروج من الأزمة.
هنا، تحديداً، يتمثل الخطأ الفادح الذي تقع فيه دوائر القرار، ذلك أنّها تختزل المهمة المطلوبة أو المعركة الحقيقية وكأنّها في "السباق مع الوقت". والصحيح أنّ التحدي الأكبر ومعيار النجاح والفشل يتمثل بمعركة الثقة والمصداقية في الشارع.
السؤال الحقيقي الذي يجب أن يسأله مطبخ القرار لنفسه: كيف يمكن أن نكسب ثقة الناس وأن نستعيدها ليس فقط بالإصلاح، بل في إعادة صوغ المشروع الوطني للدولة وترسيمه في المستقبل؟
شاركت في الأسبوع الماضي بمحاضرة في محافظة الطفيلة (ضمن مهرجان الوفاء للشهداء)، وشعرنا بالأجواء الساخطة والغاضبة، بما يفوق بدرجات هائلة الحرارة في عمان والمدن الرئيسة. ذلك ليس غريباً إلاّ لمن لا يدرك بأنّ حجم المعاناة الاقتصادية والسياسية والشعور بالحرمان الاجتماعي والسخط على السياسات الرسمية الفاشلة هناك أكبر بكثير من عمان ومن أحاديث نخبها السياسية.
قضية الإصلاح، لدى المواطن العادي في كل المحافظات والمناطق، تتجاوز الاختلاف حول مادة في الدستور أو صيغة لقانون الانتخاب، فهي ترتبط أساساً بثقته بالدولة ونظافتها ونزاهتها وقدرتها على إحداث تغييرات جذرية تمنحه أفقاً من نور ليعيش هو أو حتى أبناؤه لاحقاً حياة كريمة حرة، ويتمتع بالخدمات الرئيسة، من تعليم وصحة، ويحظى بقدر مقبول من العدالة والرضى.
ما يقلق المواطن كثيراً هو الفساد، وما يزعجه هو الشعور بغياب العدالة سواء القانونية أو السياسية أو الاقتصادية والاجتماعية، وما يغضبه أن يعتقد بأنّه يتعرّض للخداع والكذب.
الأفق الوحيد للخروج من الحالة الراهنة لا يتحقق إلا بديمقراطية حقيقية تتأسس على قاعدة من المواطنة، أما الطريق الرئيس لتجاوز الوادي السحيق من "أزمة الثقة" فيتمثّل بانفتاح الدولة على الجميع والحوار المعمّق معهم كشركاء وأبناء للوطن، لا كخصوم وغرماء أو متنافسين على الكعكة.
مهمة عبور اللحظة الانتقالية الحالية بأمان ونجاح تتطلب شخصيات سياسية قوية نظيفة موثوقة تقود مؤسسات الدولة، تملك القدرة والكفاءة على جذب أغلبية المواطنين والقوى الفاعلة إلى المشروع الجديد والتأسيس لتوافق وطني حوله.
أمّا الخطورة الكبرى، فتتمثل إذا مرّت هذه اللحظة وجرت الانتخابات، ولم تكسب الدولة ثقة المواطن، وقاطعت جماعة الإخوان والقوى السياسية الجديدة، وفق المسار الحالي، فإنّ العاقبة ستكون سيئة جداً، فهذا السيناريو يدفع بمطبخ القرار إلى مراجعة جديّة حقيقية لمدى نجاح المسار الحالي للإصلاحات.
m.aburumman@alghad.jo
(الغد)