موحش، محزن وخطير التحقيق الذي نشرته مجلة نيوزويك (النسخة العربية 23 يناير 2007) عن أطفال العراق "جيل العراق الجديد"، معدّه هو كريستال كاريل وعدد من مراسلي المجلة. المعلومات والحقائق والقصص الواردة لا تطاق، والوقوف أمام هذا الواقع اللإنساني بلا عمل بمثابة جريمة تاريخية صارخة، لا تغفر لنا.
ما العمل؟..أن تتحرك مؤسسات المجتمع المدني العربية، النخب المثقفة والسياسيون باتجاه العراق لحماية أطفاله والمدن والناس من خطر الحرب الثقافية والاجتماعية والأمنية التي تدمّر مستقبل العراق. على المجتمع المدني العربي الخروج من خندقه السياسي وأن يباشر فوراً إقامة مؤسسات مدنية وصحية ومدنية، وأن يتواصل المثقفون والمتطوعون "المدنيون" العرب مع إيران والأكراد، ومع القوى السنية والشيعية لخلق مساحة، أي مساحة، يحمون بها أطفال العراق من الجحيم الذي يعيشون فيه، بدلاً من وابل الخطب والمقالات الرنانة والثوروية.
ما يحدث في العراق أخطر من عمليات عسكرية هنا أو هناك، وأخطر من تطهير طائفي! ومن مقاومة عدوان، فما يشهده العراق اليوم هو هندسة اجتماعية جديدة تغرق مستقبله في ظلام دامس.. تقوم على تصفيته من العلماء من التخصصات كافة، سواء بالقتل أو التشريد أو التعذيب، والقضاء على مستقبل أطفاله، إذ يتحولون إلى أفراد من عصابات إجرامية وقتلة، معبأين بروح طائفية غرائزية، مجرد أدوات للقتل بحجة الدفاع عن الطائفة والأهل.
تحقيق مجلة نيوزويك طويل، لكنه مليء بما يملأ القلب مرارة كبيرة وحسرة، ولا بد أن يقرأه الجميع، وهو ليس بحاجة إلى تعقيب أو تعليق، لكنني أورد هنا بعضاً مما جاء في التحقيق، لعلّنا نقرع الجرس، متأخرين جداً، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
يروي التقرير قصصاً لمجموعة كبيرة من الأطفال، يمثلون نموذجاً مصغراً لواقع يحياه ملايين الأطفال العراقيين؛ إحدى هذه القصص، هي قصة عمّار ابن السبعة عشر عاماً، كان أبوه أحد ضباط جيش صدام سابقاً، يقول عنه معد التحقيق أنّه "قد شهد أموراً أكثر مما يجدر بأي شخص رؤيته في حياته"!، ينتمي عمّار إلى حراس الحي الذي يقيم فيه "مقاتلا الغزاة"، وهم في هذه الحالة ليسوا الأميركيين، بل الشيعة. مع ارتفاع عدد المقتولين من فرق الموت في بغداد الخريف الماضي، كان عمار يساعد في غرفة المسجد المخصصة لغسل الجثامين قبل دفنها، كانت بعض الجثث محروقة بالمواد الكيماوية وبعضها قد بترت أطرافه وسملت أعينه. ذات يوم اختفى جار لعمّار، وهو طالب جامعي سُني، عند حاجر مرتجل أقامه جيش المهدي، وعندما ظهرت جثة ذلك الشاب، رأى عمّار رأسه مقطوعاً، يقول: "ركضت إلى الحديقة وتقيأت"، ثم تعهد عمّار بالثأر.
ثاكا، يبلغ من العمر أربعة عشر عاماً، ذات ليلة صيفية كان مع والده يقفلان متجرهما لبيع الألبسة، فجأة خرج رجل مجهول من سيارة مركونة في الجوار، ومن دون تحذير، أطلق 12 طلقة من مسدس على رأس والد ثاكا إلى أن أفرغ الرصاص، يقول ثاكا: "ما زلت أذكر صوت الرصاص وكأنه كان حلماً". وقد لاذ ثاكا بالفرار إلى الأحياء الداخلية منتحباً، ولم تعثر عليه عائلته إلاّ بعد ساعات، إلى الآن – بعد مرور سنة ونصف على تلك الحادثة- لا يزال ثاكا يتعرّض لنوبات من القلق ويتناول المهدئات.
يقول معدّ التحقيق إن قصة ثاكا ليست استثناءً، فقد أظهرت دراسة أجراها أطباء نفسانيون عراقيون عام 2006، وموّلتها منظمة الصحة العالمية أنّ 30% من الأطفال الذين شملهم الاستطلاع، في مدينة الموصل، يعانون من اضطرابات نفسية، وفي بغداد يشير 47% من الأطفال إلى أنّهم تعرّضوا لصدمة نفسية كبيرة، ويعاني 14% منهم من أعراض نفسية شديدة كالإكتئاب والكوابيس والقلق.
أصبح الانخراط في صفوف الميليشيات مغريا للأطفال، الذين رأوا أخوتهم مشوّهين على أيدي فرق الموت، فرجال الميليشيات هم الأقوى في عالمهم المخيف. مثال حي على ذلك علي صدخان، من مدينة كربلاء، يبلغ من العمر 14 عاماً، ويقدِّر أنه ساعد على دفن 300 جثة أكثرها من الأطفال! يقول علي متمالكاً نفسه: "لا أريد أن أكون ضعيفاً مثلهم". علي الآن يرتدي السواد وهو لباس جيش "المهدي"، الذي يقوده مقتدى الصدر، ويقول أنه تلقّى تدريباً لمدة أربعة أشهر على استعمال الأسلحة الخفيفة.
الأسوأ من كل ما سبق أنّ ملايين الأطفال العراقيين اضطروا إلى ترك الدراسة إمّا لأسباب اقتصادية (مقتل المعيل والاضطرار إلى العمل) أو أمنية، حيث يضطر الأطفال للمرور، في طريقهم إلى المدرسة، على عدة حواجز. يقول محامٍ عراقي، وهو أب لثلاثة أطفال: "أضطر أن أوصل بنتي إلى المدرسة كل يوم، لقد شهدت حوادث اختطاف أمام عيني".
وتقدّر وزارة التربية والتعليم أنّ 30% فقط من أطفال العراق، في سن الدراسة الابتدائية، البالغ عددهم ثلاثة ملايين ونصف يرتادون المدرسة الآن، مقارنة بـ75% السنة الماضية. كما أصبحت المدارس مفروزة طائفياً.
يقدّر حسن علي، عالم اجتماع عراقي، أنّ مليون طفل عراقي – على الأقل- تأثرت حياتهم سلباً بسبب الحرب. ويرى معدّ التحقيق أنّ العنف المستمر يؤدي إلى جيل جديد دون المستوى التعليمي، عاطل عن العمل، يعاني اضطرابات نفسية، وشديد التأثر بالدعوات للانتقام.
وبعد، هذا غيض من فيض من جحيم يعيش فيه أبناء العراق، فهل بقي للإنسانية مكانٌ في دنيا العرب لينهضوا بأي دور، قبل أن يستكمل الخراب طريقه إلى ما بقي من مستقبل العراق!
m.aburumman@alghad.jo