يتعمق شرخ الوحدة الوطنية في غياب توافق جماهيري حيال برنامج الاصلاح السياسي, كما يتعاظم القلق الشعبي على وقع تسريبات ويكيليكس لعينة من برقيات شتّى أرسلتها السفارة الامريكية حول أزمة الهوية "ولّعت الدنيا" وساهمت في فرز شخصيات الدولة إلى "وطنيين وخونة".
هذه البرقيات شتتت وتشتت بريق خطوات متسارعة اتخذها الملك عبد الله الثاني منذ هبوب رياح التغيير العربي مطلع العام, بهدف وضع البلاد على سكة الاصلاح السياسي, بعد أن حادت عنها خلال العقدين الماضيين وبات القلق والفوضى عنوانا المرحلة.
فغالبية مكونات الدولة ألقت أفكارها المتناقضة حول التحديث الدستوري والسياسي في ما يشبه خلاط "المولينيكس", ليفرز كوكتيلا من المطالب المتناقضة قد لا تخدم مسيرة الاصلاح التي فرضت نفسها بقوة على أجندة الملك عقب الاطاحة بنظامي حسني مبارك وزين الدين عابدين بن علي.
أصوات عالية تخرج من حناجر القوى السياسية غير المنظمة, المعارضة التقليدية بقيادة التيار الاسلامي والحراك الشبابي المفتت لتختلط مع مطالب مجتمعية متنافرة بعضها مشروع وبعضها غير معقول, لكنها تعكس قسوة حياة الفقراء وجيش العاطلين عن العمل وتنامي فجوة الثقة بين مؤسسات الدولة والشعب. ولا يبدو أن أيا من الشخصيات الرسمية قادرة على فتح حوار مع هذه القوى لأن الثقة باتت شبه معدومة أفقيا وعموديا.
تتغذى هذه التناقضات على مفاعيل عديدة: أزمة الهوية السياسية المتنامية, مواقف المتشددين الاسرائيليين المتناسلة حيال الاردن بعد انغلاق أفق قيام دولة فلسطينية مستقلة ومخاوف يثيرها الرئيس الفلسطيني محمود عباس بإصراره على التوجه إلى الامم المتحدة لتدشين عضوية فلسطين ضمن آلية غير واضحة, قد تكون لها استحقاقات تمس حق العودة.
ثم تهطل علينا برقيات ويكيليكس كالصليات المتواترة, فتختار مواقع الكترونية الاكثر جدلية منها فيلتهب جدل الجغرافيا والديمغرافيا.
تناقض مفزع يلقي بظلاله على استحقاق الاصلاح الذي يعني شيئا ل¯ "زيد" ونقيضه ل¯ "عمر".
وتتدحرج كرة الثلج من قلق, شكوك متبادلة وسلبية قاتلة لتطغى على مشاعر غالبية الاردنيين الذين يتطلعون, مع ذلك, إلى انتخابات شفّافة ونزيهة بإشراف مستقل صيف العمل المقبل. تبقى كوّة أمل بتجاوز هذه التعقيدات بعيدا عن التشنج وصب الزيت على النار خصوصا أن ثلثي الاردنيين عبروا عن رضاهم عن التعديلات الدستورية المقترحة, في استطلاع مركز الدراسات الاستراتيجية.
مشاريع كثيرة ورؤى مختلفة
الاصلاح المنشود, بالنسبة للبعض يوازي صياغة عقد اجتماعي جديد بين الحاكم ومكون رئيسي وتعزيز سياسات الدولة الرعوية. ولآخرين, يعني تعريف من هو الاردني والمطالبة بقوننة فك الارتباط مع الضفة الغربية منذ .1988 بالنسبة لطرف ثالث يعني ذلك إصلاحات سطحية/ تجميلية تبقي سياسات الامر الواقع على حالها لحين حل القضية الفلسطينية بما يكفل منع قيام تمثيل مؤسسي أكثر مرونة للنظام الاردني. ويرى طرف رابع في الاصلاح بدء سحب صلاحيات مؤسسة العرش وخامس يرى فيه إصرار على أردنة الفلسطينيين وتعزيز تمثيلهم السياسي, وضمان المساواة في الحقوق والواجبات لكل من يحمل الرقم الوطني ويدفع الضرائب. وهناك أيضا من يرى فيه قيام دولة القانون على أسس المواطنة التي تحمي الجميع من تغول فئة على أخرى بضمانة جهاز قضائي مستقل وعبر تطوير المؤسسات بعد فك التشابك في أدوارها وصلاحياتها.
هذه المتناقضات تشجع بالطبع على ابتزاز صاحب القرار لتحقيق مصالح فئوية مقابل تنزيل سقف الاصلاحات السياسية الحقيقية في غياب برنامج واضح مدعوم من الغالبية في ساحة سياسية يتقاسمها المكونان الرئيسيان إلى جانب التيار الاسلامي الذي سيكون أول الرابحين تحت أي قانون انتخاب جديد.
الجميع يضغط اليوم على النظام بعد أن فشل الاردن في صهر المكونين الرئيسيين منذ وحدة ,1950 وضعف المؤسسات أو إضعافها لم يعد يساعد قط على إدارة شؤون الاردن والتعامل مع الازمات السياسية المستفحلة والطارئة.
تسريبات ويكيليكس وسّعت الشرخ بين الناس من خلال تسليط الضوء على برقيات تناولت نظرة السفارة لملف الوحدة الوطنية الهشة وأزمة الهوية السياسية, تحديات الاصلاح ومدى إمكانية ضمان مستقبل مشترك لجميع الاردنيين بغض النظر عن الاصل والفصل, خاصة أن لحظة الحقيقة تدنو أكثر فأكثر مع تضاؤل فرصة أيجاد حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية.
البرقيات مست الجميع, بدءا بالاسرة المالكة وانتهاء بشخصيات معتبرة تركت مناصبها أو ما تزال تتصدر العمل العام. غذّت أجواء الشكوك والشكوك المضادة. صاغها دبلوماسيو السفارة بالاعتماد على اقتباسات مباشرة اضافة إلى انطباعات خرجوا بها عقب لقاءات مغلقة مع شخصيات رسمية أو سياسية ساهمت وتساهم في تشكيل الرأي العام. الشخوص التي كانت في صلب البرقيات حكّت جرح أحد المكونين الرئيسيين وتم تصنيفها إما أبطال أو عملاء خونة.
يزيد الطين بلة عدم قدرة غالبية الجالسين على مقاعد السلطة على كسب ثقة الشارع في معركة تسريع التحديث وإعادة صوغ الاردن الجديد مستغلين هذه اللحظات التاريخية التي يمر بها الوطن وسائر الاقليم.
اليوم, لم يعد يكفي خطوات أحادية ومنفصلة, مثل تغيير الحكومة, لاستعادة الثقة المفقودة. فهناك فوضى سياسية تعصف بمكونات الدولة كافة على شكل مؤامرة بدأت خيوطها تتضح أكثر فأكثر وتحتم ضرورة اتخاذ سلسلة خطوات مدروسة جيدا تنفذ دفعة واحدة وبسرعة.
فالاصلاحات السياسية لا تعني فقط الانتهاء من التعديلات الدستورية وإقرار القوانين الناظمة للحياة السياسية ثم اللجوء إلى لعبة تغيير رئيس الحكومة في غياب حوار بين مكونات الدولة.
يحتاج الاردن اليوم الى سلسة إجراءات عاجلة بما فيها أفكار تتمتع بتأييد واسع, عرضتها شخصية سياسية حين التقت بالملك أخيرا:
- حكومة قوية ذات شخوص مسيسة قريبة من نبض الشعب وتتمتع بمصداقية وهذا ينطبق أيضا على رجالات الديوان الملكي ودوائر أخرى ذات صلة بصناعة القرار.
- تحقيق الانسجام بين أجهزة الدولة المدنية والامنية ووضعها تحت المظلة العامة لولاية مجلس الوزراء.
- إخراج قضايا الفساد الكبرى من الادراج وإعلان نتائج التحقيق في قضايا حولت إلى المدعي العام منذ شهور أو قضايا تحمل شبهات فساد قيد الدراسة على يد لجان برلمانية, والتعامل معها بجدية أكثر بهدف كشف مواطن الفساد وتحقيق العدالة بأثر رجعي.
- تشكيل مطبخ سياسي ناصح للملك من رجالات وطنية بحيث يجتمع بشكل دوري وليس موسميا ليناقش آراء مختلفة حيال قضايا وملفات الساعة بما يساعد على اتخاذ القرارات بطريقة شاملة بعد دراسة محاسن كل قرار وسلبياته وكلفته السياسية والشعبية والاستماع لمختلف الاراء.
- فتح حوار حقيقي مع القوى السياسية التي يتم تجاهلها بما فيها التيار الاسلامي واليسار وغيره للوصول إلى الاصلاح السياسي المنشود بمشاركة الجميع على أسس لعبة يكسب فيها الكل. واضح أن هناك حال من عدم الثقة بين التيار الاسلامي والحكومة من جهة وبين التيار الاسلامي والقصر من جهة أخرى, وهذا يرفع من منسوب القلق لأن القوى الثلاث مكونات أساسية في عملية الاصلاح السياسي. لكسر الجليد, لا بد من "مجسّات" عبر طرف ثالث للتحاور مع القوى السياسية الفاعلة على الساحة بمختلف أطيافها وصولا إلى قواسم مشتركة تضمن مشاركة الجميع في الانتخابات التشريعية وفي عملية صياغة الاردن الجديد. أما الاستمرار في تجاهل أي قوى, سيدفعها ربما للتحاور مع قوى إقليمية أو دولية لفرض نفسها على الواقع السياسي الداخلي. لذلك يفترض أن يكون العنوان الحقيقي للإصلاح مشاركة جميع القوى السياسية بما فيها الاسلامية, الديمقراطيون, الليبراليون الوطنيون والعلمانيون.
الحوار مع الجميع, احتواء الجميع ومشاركة الجميع والاتفاق على الثوابت الوطنية يبقى العنوان الحقيقي والاهم للإصلاح.
rana.sabbagh@alarabalyawm.net
(العرب اليوم)