الوجه الآخر لأتاتورك (يرحمه الله)
عبدالحق هقي/الجزائر
01-09-2007 03:00 AM
قراءة مختلفة ..
في سابقة هي الأولى غل التركي المسلم ذو الميول الإسلامية وأحد شباب مدرسة " الإسلام السياسي " على عتبة الرئاسة في تركيا البلد الإسلامي ذو النظام العلماني المتشدد .. ( 1 )
هل ستكون السيدة خير النساء ( 2 ) عقيلة رئيس تركيا القادم وإبنتها أول إمرأتين يدخلان قصر شناقيا الرئاسي بالحجاب ولو بمواصفات أرادتها السيدة (يرضي الجميع ابتداء من الأكثر انفتاحا وصولا إلى المحافظين.) كما صرح بذلك المصمم العالمي من أصل تركي " أتيل كوتو غلو " الذي سيدخل معهما التاريخ بإعتباره من سيصمم لباس السيدة الأولى الذي ربما لم يُؤلف أن شوهد على عتبة القصر ذات مواصفاته .و هــل من المعقول أن تفشل الحركات الإسلامية في العالمين العربي والإسلامي الأقل علمانية على توصيف غير دقيق والتي نصت جميع دساتيرها على أن (( الإسلام هو دين الدولة)) وفي بعضها الآخر أضافوا (( ومصدر التشريع الأول )) وتنجح في بلد يقر صراحة بفصل الدين عن الدولة بل ويعادي في ظاهره الإسلام فيمنع الحجاب ورفع صوت الآذان و...
هـل نحن أمام ظاهرة تستحق الدراسة وتجربة بحاجة إلى تأمل وإستقراء دقيق لمآلات الأمور منذ زمن المؤسس الأول للجمهورية وهدم ما كان يعرف بــ الخلافة أم أننا أمام حدث طارئ له ظروفه الخاصة لذا لا يجب أن نلتفت كثيرا للمسار التاريخي ونظل على عهدنا نلعن أبو اتاتورك ...
هل وصول الإسلاميين في تركيا لسدة الحكم بفضل نظام ديمقراطي ومجتمع حداثي كان لــ مصطفى كمال الفضل الأكبر فيه يشفع لـــ أتاتورك الذي نكل بالعلماء وهدم المساجد ومنع الحجاب وألغى الخلافة أم للمسألة معالجة أخرى لا ترجم ذلك ولا تتجاوز تلك ..
عندما كتبت مقالا سابقا قبل أسابيع بعنوان :
[على ضـوء فوز حزب العدالة والتنمية في تركيا ..
الوجه الآخر لـ مصطفى كمال أتاتورك رحمه الله *. ]
كنت أريد من خلال عرض المقال الذي كتبه شيخ الإصلاحيين والعالم الرباني السلفي الحق عبد الحميد بن باديس [ 1889 / 1940 ] أن أستفز وعي القارئ الكريم لطرح مثل هذه التساؤلات التي ولا شك في أن الإجابة على بعضها نبراس تهتدي به الحركات الوطنية والإسلامية في العالم العربي والإسلامي على طريق مشروع الإصلاح الذي تهدف من خلاله إلى إقامة دولة عادلة تقوم على أساس الثوابت التي يؤمن بها الشعب دون إغفال لقيمتي الحرية والكرامة .
لا أنكر في هذا المقام النضج الذي أبداه قراء المقال السابق من حيث إحترام الإختلاف والنقد البناء لما طرح دون تجريح للأشخاص ما يدل على إنتقال الصراع الفكري في الوطن العربي - على الأقل في بعض حالاته - من مرحلة الأشخاص إلى مرحلة الأفكار تأسيسا لواقع جديد قد يسهم في النهضة العربية المرتقبة ..
لكن الذي يؤسف له حقا أن العقل العربي ذو التوجه الإسلامي وهو الغالب لا يزال لا يدرك جوهر الصراع ولا النظر إلى التجارب برؤية مختلفة إستنادا إلى الحقائق المتراكمة لا إلى الإنطباعات والأخطاء اللحظية .. وبدل أن يشتغل في مساحة الواقع المعاش راصدا الأعمال المنجزة ولو ببطء تراه ينصرف عنها إلى التصرفات والنزوات الشخصية لاعنا ومستنكرا ومخونا وما إلى ذلك ...
إن معالجة شيخنا بن باديس لشخصية مصطفى كمال أتاتورك لا تأتي عن رؤية ضبابية أو لحظة عته بإنتشاء لنصر واهي سُوق بل وأنها تنصرف عن لحم الشخص لتدرك الفكرة - التي أحدثها الشخص عن قصد أو جهل - مستفيدا في ذلك من حقائق ربانية وسنن كونية سنشير لها لاحقا ..
يقول كثير ممن يرون شذوذ الإمام الورع بشهادة علماء عصره المجاهد لإقامة الخلافة الإسلامية التي هدمها أتاتورك نفسه محاولين تبرير مقالته تلك بأن الشيخ لم يعلم حقيقة أتاتورك وأنه كغيره من العلماء والشعراء غرتهم إنتصاراته على اليونان .. وأنه لو علم ما أحدثه أتاتورك وجماعته من بدع منكرة وسنن سيئة لا يزال وزرها يلحق بصاحبها لما تأخر في لعنه ولعن الساعة التي إمتدحها فيها .. وأقول أن القارئ لمقدمة المقال السابق المشار له هنا والعارف بشخصية الإمام كونه علاوة على شخصيته العلمية وموسوعيته التي تأبى إطلاق الأحكام على جهل صحفيا مقتدرا ومتابعا لهموم أمته الكبيرة على ما يعانيه وطنه الصغير في حينه وإهتمامه بشأن الخلافة ينسف ذلك خصوصا أن المقال جاء ليرثي أتاتورك لا ليمدح أحد إنتصاراته فبالتالي رأى وسمع ما حل بالخلافة وبالإسلام ذاته وما جره تولي أتاتورك قيادة تركيا .. بل وسيتعجب القارئ حين يرى أن عبد الحميد بن باديس نفسه أثناء حياة أتاتورك وساعة عاث في الأرض فسادا لم يولي الأدبار ولم يهجر قولة الحق ففي مقال سبق مقال رثائه بــ 14 سنة يقول – رحمه الله – في مقال بعنوان : "الفاجعة الكبرى أو جنايات الكماليين على الإسلام والمسلمين ومروقهم من الدين" (( إن الإسلام لا يقدس الرجال - وإنما يسير الأعمال- فلئن والينا الكماليين بالأمر جناهم فلأنهم قاموا يذبون عن حمى الخلافة وينتشلون أمة إسلامية عظيمة من مخالب الظالمين وقد سمعناهم يقولون في دستورهم (إن دين الدولة الرسمي هو الإسلام) ولئن تبرأنا منهم اليوم وعاديناهم فلأنهم تبرأوا من الدين وخلعوا خليفة المسلمين، فكانوا ممن عمل بعمل أهل الجنة حتى لم يبق بينه وبينها إلا ذراع فعمل بعمل أهل النار فكان من الخاسرين، وإنما الأمور بخواتمها والعاقبة للمتقين )) . - جريدة النجاح عدد 152 بتاريخ 28 مارس 1924م – ويقول معقبا على ذلك في مقال لاحق بعنوان : " على مقالنا السابق في جنايات الكماليين ومروقهم " المنشور في جريدة النجاح العدد 153 بتاريخ 4 أفريل 1924م ((... وبعد فإن الإسلام دين الحقائق والعلوم لا دين التقاليد والرسوم فلنرفض الأوهام و إن لأمتنا - ولنقبل الحقائق وإن آلمتنا - ولنقل عن علم وإنصاف أن خلافة الكماليين باطلة من أصلها، وأن لا خلافة اليوم... )).
هل هو التناقض أو خرف الشيخوخة التي لم يعشها الإمام ؟!!!!؛ هل هو ذاته كاتب المقالات أم هناك من أراد تشويه صورته فدس المقال العجيب بين أوراق الشيخ وصار به للنشر ؟!!!!! ؛ هل غير الشيخ نظرته لكمال بعد كــل هذه السنون مع أن المفروض أن يكون العكس فجنايات أتاتورك تراكمت مع الأيام مما يجعل مثل هذا القول للشيخ ينسف مكانته العلمية ويمحق عمله السابق – وهذا الذي نعتقد جعل كثير من طلبته ومحبيه يخفون المقال وينفونه عنه على يقينية نسبته إليه دون البحث عن السر الذي دفع العلامة لقول ذلك والرسائل التي مررها من خلاله – .
سأترك الإجابة على أسئلة عميقة يطرحها كـل دارس للفكر الإسلامي تتطلب تسليط الضوء إلى حلقات قادمة لأجيب فقط على إفتراضي لما كتب الإمام عبد الحميد بن باديس ممتدحا أتاتورك - عما يشكله ذلك من شذوذ - في رثائه وما يمكننا كجيل ينشد التغير الإستفادة من ذلك ..
عمل شيخنا رحمه الله على أسس ثابتة في كامل مسار حياته فجعلت من مبادئه ثابتة ومواقفه متغيرة بحسب المكان والزمان والحال ..
كان الشيخ يفرق بين الواقع والمفروض ؛ فإن كان يسعى للرقي إلى ما هو مفروض فإنه عمل وفق متاح ما هو واقع .. مستفيدا من هوامش الحرية والإمكانات المتواضعة الي تفرضها المعركة ..
وقف أمام اتاتورك وقد ولى إلى ربه فذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم (( أذكروا موتاكم بخير )) فعلم أن المخاطب بها ليس صاحب العمل الصالح فحسب وإلا ما نبه إلى ذلك ولكنها تشمل الضال والفاسق والمنسل بغروره وجهله عن دين الله فأستوقف في بداية مقاله يَذكر خيره و يُذكر بإنجازاته في حق بلده وأمته ..
وتلى قول ربه (( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون )) . فأشار إلى الأمة جميعا وللمنشغلين بإرث الرجل الذي أودعت أمانته ربه بأن المعركة لا مع الماضي بل هي مع الحاضر .. وإن كان عليهم الإعتبار مما مضى فيجب أن ينفثوا لجوهر الأسباب لا لقشورها .. وان التحدي كيف يعود ما مضى لا البكاء على الذي مضى ...
ثم رأى بعمق المفكر الواعي المتبصر أن كــل شيء خلق إلا وقد أُلهم فجورا وتقوى وكل حادثة إلا لها أوجه إيجابية وأخرى سلبية فإنطلق يتلمس ما يمكن إستغلاله فيما حدث مرشدا له .. يدعوا تبصره وإستثماره في معركة الآتي ..
مات الشيخ رحمه الله بعد كتابته ذلك المقال المثير للجدل بنحو سنتين .. وحاول تلاميذه الخلص إخفائه عن عيون محبيه كي لا ينصدموا حين قرائته على إعتقاد خاطئ منهم ولم يجهدوا أنفسهم فهم مراد الإمام .. ويسر الله للمقال بعد 67 سنة أن يقع في يدي وبعده بــ 69 سنة كي أعرضه عنكم وهي السنة ذاتها التي وصل فيها أول رجل عن حزب متبني للمشروع الإسلامي والذي ترتدي زوجته الحجاب إلى سدة الحكم في تركيا التي ظلت سنينا نظمها السياسية ونخبتها العسكرية تسعى لإبعادهما عن دائرة الحياة العامة .. وصدق حدس علامتنا بن باديس حين قال (( نعم إن مصطفى أتاتورك نزع عن الأتراك الأحكام الشرعية ليس مسؤولا في ذلك وحده، وفي إمكانهم أن يسترجعوها متى شاءوا و كيفما شاءوا، و لكنه رجع لهم حريتهم واستقلالهم وسيادتهم وعظمتهم بين أمم الأرض، وذلك ما لا يسهل استرجاعه لو ضاع، وهو وحده كان مبعثه ومصدره، ثم إخوانه المخلصون، فأما الذين رفضوا الأحكام الشرعية إلى (كود ) نابليون فماذا أعطوا أمتهم ؟ و ماذا قال علماؤهم ؟
فرحم الله مصطفى و رجح ميزان حسناته في الموازين و تقبل إحسانه في المحسنين. )) .
الأتراك نفذوا إلى مراد الشيخ دون أن يقرؤوا مقالته وربما دون أن يسمعوا به فهل يمكن أن نجتهد بحوار هادئ ورزين على ضوء المقال المرفق مع هذه القراءة للوصول لقراءة جديدة للذي يدور حولنا وإيجاد سبل لبعث مشروعنا الحضاري ؟!!!!!
( 1 ) كتبنا هذا المدخل ليلة أمس حين كان فوز غل الإحتمال الأكثر صدقية ونحن نهم بختمه كانت وكالات الأنباء تبرق فوزه برئاسة الجمهورية التركية .
( 2 ) خير النساء إسم عقيلة الرئيس وليس وصف تُكنى به وإن كنا نرى أن للأسماء إنعكاس على شخصية الإنسان فبارك الله فيها .
لقراءة مقالنا السابق الرابط هــو :
المقال :
مقالة العلامة إبن باديس ..
غرة رمضان 1357 هـ، نوفمبر 1938م. " مصطفى كمال رحمه الله "
(( في السابع عشر من رمضان المعظم ختمت أنفاس أعظم رجل عرفته البشرية في التاريخ الحديث عبقري من أعظم عباقرة الشرق، الذين يطلعون على العالم في مختلف الأحقاب فيحولون مجرى التاريخ و يخلقونه خلقا جديدا ذلك هو مصطفى كمال بطل غاليبولي في الدردنيل، وبطل سقاريا في الأناضول، وباعث تركيا من شبه الموت إلى حيث هي اليوم من الغنى والعز والسمو.
وإذا قلنا بطل غاليبولي فقد قلنا غالب الإنجليز أعظم دولة بحرية الذي هزمها في الحرب الكبرى شر هزيمة لم تعرفها في تاريخها الطويل، وإذا قلنا بطل سقاريا فقد قلنا قاهر الإنجليز وخلفائهم من يونان، وطليان، وفرنسيين بعد الحرب الكبرى ومجليهم عن أرض تركيا، بعد احتلال عاصمتها و التهام أطرافها وشواطئها.
وإذا قلنا باعث تركيا فقد قلنا باعث الشرق الإسلامي كله.
فمنزلة تركيا التي تبوأتها من قلب العالم الإسلامي في قرون عديدة هي منزلتها فلا عجب أن يكون بعثه مرتبطا ببعثها، لقد كانت تركيا قبل الحرب الكبرى هي جبهة صراع الشرق إزاء هجمات الغرب ومرمى قذائف الشره الاستعماري و التعصب النصراني من دول الغرب فلما انتهت الحرب، فخرجت تركيا منها مهمشة مفككة تناولت الدول الغربية أمم الشرق الإسلامي تمتلكها تحت أسماء استعمارية ملطفة واحتلت تركيا نفسها، واحتلت عاصمة الخلافة و أصبح الخليفة طوع يدها، و تحت تصرفها وقال المارشال اللنبي - وقد دخل القدس - (اليوم انتهت الحروب الصليبية) فلو لم يخلق الله المعجزة على يد كمال لذهبت تركيا و ذهب الشرق الإسلامي معها لكن كمالا الذي جمع تلك الفلول المبعثرة، فالتف به إخوانه من أبناء تركيا البررة ونفخ من روحه في أرض أناضول حيث الأرومة التركية الكريمة و غيل ذلك الشعب النبيل وقاوم ذلك الخليفة الأسير و حكومته المتداعية، وشيوخه الدجالين من الداخل، وقهر دول الغرب و في مقدمتها إنكلترا من الخارج - لكن كمالا هذا أوقف الغرب المغير عند حده و كبح من جماحه و كسر من غلوائه، وبعث في الشرق الإسلامي أمله وضرب له المثل العالي في المقاومة والتضحية، فنهض يكافح ويجاهد، فلم يكن مصطفى محي تركيا وحدها، بل محي الشرق الإسلامي كله، وبهذا غير مجرى التاريخ، ووضع للشرق الإسلامي أساس تكوين جديد، فكان بحق كما قلنا - من أعظم عباقرة الشرق العظام الذين أثروا في دين البشرية و دنياها من أقدم عصور التاريخ.
إن الإحاطة بنواحي البحث في شخصية أتاتورك ( أبي الترك ) مما يقصر عنه الباع، و يضيق عنه المجال، ولكني أرى من المناسب أو من الواجب أن أقول كلمة في موقفه إزاء الإسلام. فهذه هي الناحية الوحيدة من نواحي عظمة مصطفى أتاتورك التي ينقبض لها قلب المسلم ويقف متأسفا و يكاد يولي مصطفى في موقفه هذا الملامة كلها حتى يعرف المسؤولين الحقيقيين الذين أوقفوا مصطفى ذلك الموقف، فمن هم هؤلاء المسؤولون ؟. . .
المسؤولون الذين كانوا يمثلون الإسلام وينطقون باسمه، ويتولون أمر الناس بمفرده ويعدون أنفسهم أهله وأولى الناس به.
هؤلاء هم خليفة المسلمين شيخ إسلام المسلمين ومن معه من علماء الدين، شيوخ الطرق الصوفية والأمم الإسلامية التي كانت تعد السلطان العثماني خليفة لها.
أما خليفة المسلمين فيجلس في قصره تحت سلطة الإنجليز المحتلين لعاصمته ساكتا ساكنا مستغفرا لله، بل متحركا في يدهم تحرك الآلة لقتل حركة المجاهدين بالأناضول، ناطقا بإعلان الجهاد ضد مصطفى كمال ومن معه الخارجين عن طاعة أمير المؤمنين.
وأما شيخ الإسلام وعلماؤه فيكتبون للخليفة منشورا يمضيه باسمه ويوزعه على الناس بإذنه وتلقيه الطائرات اليونانية على القرى برضاه، ويبيح دم مصطفى كمال ويعلن خيانته ويضمن السعادة لمن يقتله.
وأما شيوخ الطرق الضالون وأتباعهم المنومون فقد كانوا أعوانا للإنجليز وللخليفة الواقع تحت قبضتهم يوزعون ذلك المنشور، ويثيرون الناس ضد المجاهدين.
وأما الأمم الإسلامية التي كانت تعد السلطان العثماني خليفة لها فمنها - إلا قليلا - من كانوا في بيعته فانتفضوا عليه ثم كانوا في صف أعدائهم وأعدائه ومنها من جاءت من مستعبديها حاملة السلاح على المسلمين شاهرة له في وجه خليفتهم.
فأين هوا لإسلام في هذه (الكليتيات)* كلها ؟، و أين يبصره مصطفى الثائر المحارب والمجاهد الموتور بها ؟
لقد ثار مصطفى كمال حقيقة ثورة جامحة و لكنه لم يثر على الإسلام و إنما على هؤلاء الذين يسمون بالمسلمين، فألغى الخلافة الزائفة وقطع يد أولئك العلماء عن الحكم فرفض مجلة الأحكام واقتلع شجرة زقوم الطرقية من جذورها، وقال للأمم الإسلامية عليكم أنفسكم، وعلي نفسي،لا خير لي في الاتصال بكم مادمتم على ما أنتم عليه.
فكونوا أنفسكم ثم تعالوا نتعاهد ونتعاون كما نتعاهد وتتعاون الأمم ذوات السيادة والسلطان.
أما الإسلام فقد ترجم القرآن لأمته التركية بلغتها لتأخذ الإسلام من معدنه أو تستقيه من نبعه، ومكنها من إقامة شعائره فكانت مظاهر الإسلام في مساجده ومواسمه تتزايد في الظهور عاما بعد عام حتى كان المظهر الإسلامي العظيم يوم دفنه والصلاة عليه تغمده الله برحمته؛لسنا نبرر صنيعه من رفض مجلة الأحكام، ولكننا نريد أن نذكر الناس أن تلك المجلة المبنية على مشهور و راجح مذهب الحنفية ما كانت تسع حاجة أمة من الأمم؛ في كل عصر؛ لأن الذي يسع البشرية كلها في جميع عصورها هو الإسلام بجميع مذاهبه، لا مذهب واحد أو جملة مذاهب محصورة كائنا ما كان، وكائنه ما كانت أو نريد أن يذكر الناس أيضا أن أولئك العلماء الجامدين ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا غير ما عرفوه من صغرهم من مذهبهم، وما كانت حواصلهم الضيقة لتتسع أكثر من ذلك، كما يجب أن يذكروا أن مصر، بلد الأزهر الشريف مازالت إلى اليوم الأحكام الشرعية - غير الشخصية - معطلة فيها، ومازال ( كود) نابليون مصدر أحكامها إلى اليوم، ومازال الانتفاع بالمذاهب الإسلامية في القضاء - غير المذهب الحنفي - مهجورا كذلك إلا قليلا جدا.
نعم إن مصطفى أتاتورك نزع عن الأتراك الأحكام الشرعية ليس مسؤولا في ذلك وحده، وفي إمكانهم أن يسترجعوها متى شاءوا و كيفما شاءوا، و لكنه رجع لهم حريتهم واستقلالهم وسيادتهم وعظمتهم بين أمم الأرض، وذلك ما لا يسهل استرجاعه لو ضاع، وهو وحده كان مبعثه ومصدره، ثم إخوانه المخلصون، فأما الذين رفضوا الأحكام الشرعية إلى (كود ) نابليون فماذا أعطوا أمتهم ؟ و ماذا قال علماؤهم ؟
فرحم الله مصطفى و رجح ميزان حسناته في الموازين و تقبل إحسانه في المحسنين.
وإلى الأمة التركية الشقيقة الكريمة الماجدة، التي لنا فيها حفدة و أخوال، والتي تربطنا بها أواصر الدين والدم والتاريخ والجوار، والتي تذكر الجزائر أيامها بالجميل أو ترى شخصها دائما ماثلا فيما تركت لها من مساجد ومعاهد للدين الشريف أو الشرع الجليل، إلى تركيا العزيزة نرفع تعازي الجزائر كلها مشاركين لها في مصابها راجين لها الخلف الصالح من أبنائها و مزيد التقدم في حاضرها ومستقبلها.
وإلى هذا فنحن نهيبها برئيس جمهوريتها الجديد عصمت إينونو، بطل (إينونو) ومؤتمر لوزان و ثني مصطفى كمال، وإن في إجماعها على انتخابه دليلا على ما بلغته تركيا الكريمة من الرشد في الحياة الذي تبلغ به - إن شاء الله - من السعادة والكمال، ما يناسب مجدها القدموس وتاريخها الحافل بأعاظم الرجال، وجلائل الأعمال.)) انتهى مقال الإمام ابن باديس. أ.هـ.