يتعرض المشهد العالمي لثورة معلومات تعلي من دور الاقتصاد والإعلام والمعلوماتية في تشكيل واقع عالمي جديد تنتظمه متغيرات متسارعة. وهذا يضع الدول العربية أمام تحديات كبيرة ناجمة عن التكتلات الاقتصادية العالمية وما تحمله من منافسة اقتصادية تشكل مواجهة يفترض الاستعداد لها. وهذا يطرح أسئلة على قادة الفكر العربي حول مدى قدرة اقتصاد الدول العربية على إجراء الإصلاحات السياسية والاقتصادية وإعادة الهيكلة لإقامة نظام تنافسي يسمح بتكوين موقع متقدم لهذه الدول على خارطة الاقتصاد الدولية. وينهض جلالة الملك عبد الله الثاني بدور ريادي تجسد بحمل العبء الأكبر من مسؤولية العمل العربي المشترك. إذ يسعى لتوحيد جهود الأمة بمنهجية جعلته المبادر الأول في تحقيق التضامن العربي. ومن هنا يتضح أن استثمار اللقاءات الاقتصادية التي يقودها جلالته يؤدي إلى استقطاب الرساميل والاستثمارات الأجنبية. وهكذا يتبين أن كثيرا من المرجعيات الاقتصادية إذا بقيت قارة كما هي لا تكون قادرة على مواكبة المستجدات العالمية. وهذا يقتضي تطوير التشريعات الاقتصادية وإلغاء الكثير من القيود التي تعيق طرق الجذب الاقتصادي بما يكفل انتقال رؤوس الأموال واختراق أسواق جديدة ومشاركات عالمية.

من هنا ندعو إلى إعادة النظر في هذه المرجعيات لتكون ضمن منهجيات تخدم تفاعلات الأنا والآخر. فمحاولة العولمة توحيد الأنساق واجتياز الجغرافيا لا تعني نفي الآخر بل تطرح أنماطاً من الفكر المختلف المفضي إلى بناء منطويات المؤتلف لإعادة تشكيل المنظومات الاقتصادية. ومن المقرر أن العولمة تفرض على الدول العربية أن تبني نموذجاً اقتصادياً خاصاً بها يؤسس على استثمار الثروة العربية تحقيقاً لقوة هذه الأمة اقتصاديا وحماية لمصالحها تجاه المجتمع الدولي. وهذا يقتضي بناء نسق حصين يقام على التعاون والتكامل الاقتصادي مراعياً التحولات الاقتصادية العالمية ومؤلفاً نموذجاً يكون عصياً على الاقتحام. وهكذا فإن غياب تكتل اقتصادي عالمي يجعل اقتصاديات الدول العربية قابلةً للتأثر بتحديات العولمة. وهكذا يشكل انضمام الأردن لمجلس التعاون الخليجي ومشروع السوق العربية المشتركة خطوةً أساسيةَ لإعلان الثوابت المشتركة وبداية الانطلاق لمواجهة عواصف العولمة. والذي يبدو واضحاً أن المشاريع النهضوية التي تستشرف العولمة تأخذ بفكرة الأنساق الذاتية على أنها المرايا التي يمكن قراءة قضايا العولمة من خلالها. ويصدر الفكر العربي عن وعي حاد لإيجاد نموذج خاص يؤلف مرجعية تقف في وجه عاصفة العولمة ولا تسلم قيادة الأبنية الفكرية لها. وانطلاقاً من هذا الأساس، لا يترك للنماذج الاقتصادية العالمية أن تقود الأبنية الاقتصادية العربية بل يترك للأيديولوجيات العربية أن تستوعب النماذج العالمية من أنساقها بما لا يعطيها مركزية ولا يسمح لها بقيادة الأنساق العربية. وهذا يوقد جذوة الطرح الثقافي بما يحقق غلبة هوية الأمة على إشكالية العولمة وجعلها تنطوي في سياق الأمة الثقافي. والمشروع المقترح لمواجهة التحديات هو نؤسس لقراءة ما في الواقع من حاجات بموضوعية تكشف الأطر الأساسية التي يدور في سياقها. وأن نعرّض الأفكار المستعارة للامتحان لملاحظة قدرة استجابتها للواقع وأن ننظم الأنماط الفكرية المستعارة لتخدم هذا الواقع. وهذه مسؤولية تتطلب جعل الأفكار والمرجعيات المستعارة مواكبة لتطلعات الأمة ضمن تفاعل حضاري لا يقبل التماهي مع الآخر ولكن يسعى إلى تطويع النماذج وفق المشاكلة والاختلاف. والمشروع الذي يتصدى له الأردن هو الإصلاح الذي يشكل منهجاً من مناهج التخطيط والبناء والتقويم المستمر لمعطيات المنجز الوطني. فالإصلاح يعد إعلاناً عن سيرورة الأمة لمواكبة المتغيرات المحلية والعالمية. إذ يقتضي هيكلة بنائية تكشف الأنساق التي يصدر عنها الواقع ارتقاء لمرتبة تحدي هذا الواقع وجعله حركة مؤلفة لأبنية التحول على مختلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وهكذا تستطيع القوة الثقافية توحيد الجهود الوطنية واستثمار الإمكانات والطاقات المتوافرة لمواكبة روح العصر.

والملاحظ أن محاولة تحصين الذات بنظرة مفادها فرادة الثقافات لا يشفع لنا أن نلوذ بهذه النظرة لمواجهة تحديات العولمة؛ لأن هذه الظاهرة تفرض استجابة تناسب الواقع الموضوعي محلياً وعالمياً. فلا بد من تشكيل نموذج عالمي يتصدى لمواجهة الوضع الذي يترتب على مشاريع النظام الرأسمالي العالمي لتأخذ الأمة موقعها وفق تكتل خاص بها. ويبدو أن النموذج العربي يستأنف من المراجعة الشاملة التي توقد جذوة فكرية قادرة على النهوض بالمجتمع على وجه يستثمر المنجزات الحديثة ويحافظ على ما تحقق محاولاً تنميته. والمراجعة الشاملة منهج للتغيير في عالم تهجم عليه ثورة المعلومات بما تشمل من تحولات في الأنظمة الثقافية والاقتصادية. وينظر للمراجعة الشاملة على أنها منهج لإحداث التغير المطلوب بوعي يكون قادراً على قيادة التحولات بما يناسب التنمية الشاملة . وهذا يفرض وضع المعايير التي ترتقي بالتطوير الإداري ارتقاء جوهرياً يسهم في التنسيق بين القطاعات. وتجسد هذه المراجعة تناولاً موضوعياً يدرس الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية ويتخذ القرارات المخطط لها ويرسم البرامج للنهوض بمتطلبات خطط التنمية استجابة لمطالب التغير بما يناسب التسارع المعرفي العالمي.

ومن هنا يتضح أن الأمة الواعية هي القادرة على أن تأخذ دورها وتعرف مسؤولياتها للتبصر بمتطلبات المرحلة التاريخية التي تقتضي النظر إلى القطاعات المختلفة وفق مبادئ التنظيم والتخطيط واختيار الكفاءات القادرة على النهوض الفعّال الذي يفرض نفسه على الرأي العام العالمي. وصفوة القول أن التسارع المعرفي الذي يشهده العالم يفرض علينا استثمار المنجز الحداثي بأسلوب علمي يضع الطرق المنهجية المقترحة في ميزان النقد الفكري إظهاراً لملامح التمايز واختياراً للمنهجيات القادرة على مواجهة التحديات. ويتضح لنا أن تبني السياسات الواضحة وبيان الإطار المرجع الذي يصدر عنه الإصلاح يسهم في بناء نموذج نهضوي يظهر الأولويات ويكشف ما يعيق سبل التقدم. وهذا يؤدي إلى تطوير المناهج والاستفادة من التقنيات الحديثة التي تسهم في تشكيل تحولات عميقة تواكب مطالب العولمة. ومن هنا ندعو إلى استثمار الزمن استثماراً يناسب التحديات التي تعصف بالمضامين الحضارية والاجتماعية. فالأمة مطالبة بالخطاب السياسي الذي يواكب التغيرات المتسارعة توخياً لإقامة التكتلات الاقتصادية وفق أسس واعية تناسب خطاب المرحلة وتحقق التعاون في إطار الوحدة العربية.

الأستاذ الدكتور عبدالله العنبر
عميد كلية الآداب
الجامعـــــة الأردنيــــــة