الملمح الرئيس في استطلاعات الرأي الأخيرة هو "استعصاء الجنوب" في شعبية الحكومات؛ إذ تحصّل جميعها على نسب متدنية مقارنةً بالمحافظات الأخرى.
هذا المؤشر المباشر ينعكس على الواقع، بصورة واضحة، من خلال الاعتصامات والمسيرات الأخيرة. ولا يعجز من استمع لمحاضرة المهندس ليث شبيلات في الطفيلة، وما تخللها من هتافات وشعارات، عن إدراك أنّ الموضوع تجاوز "التململ" التقليدي إلى مرحلة أكثر خطورة وحرجاً.
بالرغم من ذلك، فإنّ القراءة الرسمية ما تزال متحجرة عند لغة خشبية بائسة معلّبة، مللنا منها في تفسير ما يحدث. ولا نبالغ بالقول بأنّ مثل هذا الإدراك السطحي هو المسؤول عن تدهور العلاقة بين المحافظات والعاصمة.
ثمة مطالب سياسية، بلا شك، للجنوب برزت مؤخراً في الشعارات والخطابات، وهي بمثابة ردّ على التهميش السياسي الذي يشعر به أبناء المحافظات؛ وهم يشكون بأنّ المناصب السياسية والإدارية مقصورة على نخب معينة، ويتوارثها الأبناء عن الآباء؛ حتى تمثيل المحافظات لدى المركز تحظى به نخب تقليدية لم يعد لها رصيد حقيقي في الشارع.
الأكثر إلحاحاً في مطالب الجنوب هو الشعور بغياب العدالة الناجم عن عجز التصورات التنموية، والحرمان الاجتماعي، وافتقار البنية التحتية والخدمات الأساسية، والأهم من هذا وذاك تنامي الشعور بالسخط من الفساد الذي يحمّله الشباب هناك مسؤولية تدهور أوضاعهم المعيشية.
الملمح الثاني في استطلاع مركز الدراسات الاستراتيجية الأخير، هو القفزة الأساسية في اهتمام قادة الرأي بموضوع الإصلاح السياسي، إذ وصل إلى درجة منافسة للهموم الاقتصادية. وهي المرّة الأولى التي يصل فيها اهتمام النخبة بالإصلاح إلى هذه المرتبة المتقدمة.
ففي أهم مشكلة سياسية تواجه الحكومة، أفاد 43 % أنها المرتبطة بالإصلاح السياسي، ورأى 40 % من قادة الرأي أنّ الحكومة تستطيع تحسين تقييمها الشعبي إذا اتخذت خطوات عملية تجاه الإصلاح السياسي، وهي الخطوة الأكثر أهمية في هذا المجال، وفقاً لقادة الرأي. صحيح أنّ الشؤون الاقتصادية ما تزال تتصدّر اهتمام الناس، وهذا أمر طبيعي في العالم كله، وليس ظاهرة أردنية خاصة. لكن التطور على اهتمام قادة الرأي بموضوع الإصلاح السياسي يشي باتجاهات مهمة من تطور الرأي العام الأردني، بخاصة أنّ التطورات تبدأ عادةً بالنخبة، ثم تنتقل إلى العينة الوطنية بصورة سريعة وقياسية. ذلك يعني أنّ الإصلاح السياسي يضع قدمه للمرة الأولى ضمن الاهتمامات الرئيسة للرأي العام الأردني.
للتذكير؛ فإنّ رئيس الوزراء السابق سمير الرفاعي، كان يحظى بوضع مريح في استطلاع الرأي لدى العينة الوطنية، لكنه كان الأقل شعبية وقبولاً ضمن آخر رؤساء الوزراء لدى قادة الرأي.
حينها حذّر الاستطلاع نفسه، في الخلاصة، بأنّ موقف قادة الرأي سينتقل سريعاً إلى الشارع، وهو ما حدث فعلاً، بصورة دراماتيكية، عندما أطاحت المظاهرات والمسيرات والاعتصامات بحكومة الرفاعي الثانية بعد أسابيع قليلة على تشكيلها، وحصولها على "ثقة قياسية" من مجلس النواب.
بيت القصيد أنّ الدولة تحتاج إلى تطوير "أجهزة الإنذار" المبكّر، وتشغيل قدرتها على قراءة التحولات والمتغيرات، بدلاً من الارتجالية والعفوية والسطحية التي تطغى عادةً في إدارة السياسات الرسمية. فاستعصاء الجنوب يعكس فشلاً ذريعاً ليس في الإنذار المبكّر، بل والمتأخر أيضاً!
لدينا معضلة حقيقية ليس في "الجنوب" وحسب، بل في إدارة أزماتنا السياسية عموماً، إذ ما نزال نفضّل دفن الرأس في الرمال إلى حين تتحول "ذرات" المشكلات إلى "جبال" من الأزمات!
(الغد)