يتحدث "مطبخ القرار"، بوضوح، عن "أشهر انتقالية" محددة تنجز فيها التعديلات الدستورية وقانونا الانتخاب والأحزاب، تمهيداً لانتخابات بلدية في نهاية العام الحالي أو مطلع المقبل، تليها انتخابات نيابية مبكرة بحلول النصف الثاني من 2012، تؤدي، وفقاً لهذه الروزنامة الزمنية والسياسية، إلى تغييرات بنيوية مهمة في المعادلة السياسية، وآليات تشكيل الحكومات، وتدفع بالبلاد نحو "مرحلة جديدة" مختلفة.
التغييرات الجوهرية التي أدخلتها الحكومة على التعديلات الدستورية تمثّل خطوة جيّدة للأمام، بخاصة ما يتعلّق بإلزام الحكومات الحصول على ثقة أغلبية مجلس النواب، إذا اقترنت بحوار هادئ موسع يفتح مع شخصيات وقوى متنوعة أبدت ملاحظات معينة على المخرجات، بالاشتراك مع مجلس الأمة. ما هو أهم من الاختلاف على بنود التعديلات الدستورية، وحتى على النظام الانتخابي، والزوبعات السياسية المتعلقة بها، هو وجود "ثقة متبادلة" بين "مطبخ القرار" والمؤسسة السياسية عموماً والشارع والقوى السياسية، إذ إنّ كل ما نسمعه الآن هو "تشكيك" متبادل بنوايا كل طرف!
"مطبخ القرار" يرى أنّ ما يحدث في الشارع غير مبرّر، بخاصة مع تحرك الدولة باتجاه إنجاز التعديلات الدستورية والتمهيد لانتخابات مبكرة، ويجد أنّ قوى سياسية كبرى، مثل جماعة الإخوان، لا تبدي "نوايا حسنة" تجاه الإصلاح المطلوب.
في المقابل، فإنّ القوى السياسية تشكك في نوايا الحكومة، وما تزال تعتقد أن ما تسعى إليه الدولة هو إصلاحات شكلية، شراءً للوقت، وتحايلاً على الوصول إلى "ديمقراطية" حقيقية، تقوم على التعددية وتداول السلطة وتوازن السلطات، والحريات العامة وحقوق الإنسان.
المشكلة الحقيقية تكمن في "المناخ العام" السلبي تجاه ما يصدر عن الدولة، وهو مناخ منبثق – بالضرورة- من رحم أزمة الثقة والمصداقية العميقة التي حصلت عليها "الدولة" بامتياز خلال السنوات الماضية.
وتتجاوز خطورة مسألة الثقة بالدولة اعتبارات العلاقة مع المعارضة أو الحراك الشبابي الجديد، إلى هيبة الدولة نفسها وحضورها في المجتمع والشارع، وقد تضررت هذه "القيمة" كثيراً خلال السنوات الماضية، وصعدت على حسابها انتماءات فرعية ومناطقية وعشائرية، تتحدث بصيغة نديّة مع الدولة نفسها، وكأنّنا في دول متعددة وجزر معزولة، ولسنا في دولة فيها قانون واحد يسود على الجميع، وفق مسطرة المواطنة الصارمة.
بالضرورة، لا نتوقع أن نستعيد الثقة بالدولة ومع الشارع بين ليلة وضحاها، بعد سنوات سياسية عجاف، تخللها تزوير انتخابات بلدية ونيابية، وصراع مراكز قوى، وتغول المنظور الأمني على الحياة العامة، وتجفيف منابع الأحزاب والقيادات المحلية، وصعود انطباع جارف بانتشار الفساد، وتراجع الهوية الوطنية لصالح الهوية الفرعية تحت وطأة الأخطاء السياسية القاتلة.
لكن حتى تكتسب الدولة "معركة الثقة"، مرة أخرى، وتقنع الناس بضرورة المساهمة والمشاركة في المرحلة الجديدة نحتاج - ابتداءً- إلى "توحيد اللغة" الصادرة من مؤسسات الدولة، ليس فقط على مستوى الخطاب السياسي، بل حتى على أرض الواقع، فلا تكون هنالك رسائل متناقضة متضاربة، تخلق شكوكاً لدى الناس في حقيقة النوايا الإصلاحية للدولة ومداها.
على النقيض من ذلك فإنّ هنالك أجواءً رسمية مبالغا فيها تنظر بقلق وعدائية تجاه الحراك السياسي المطالب بالإصلاح أو تجاه تعدد الآراء فيما يتعلق بالتعديلات الدستورية ونظام الانتخاب، وتساهم في تعزيز الأجواء السلبية المشكّكة، رغم أنّ الاختلافات هي أمر طبيعي، ولا نتوقع أن نجد الناس على صعيد واحد متفقين، حتى داخل المعارضة نفسها هنالك اختلافات شديدة على الأولويات وقضايا مفصلية.
معركة الثقة تتكرس على الواقع، وليس في الخطاب فقط، وأمامنا محطات مهمة في الأشهر القليلة، ستكون "مفصلية" وحاسمة، إما أن تعيد بناء الثقة والمصداقية أو تقضي على ما تبقى منهما!
m.aburumman@alghad.jo
(الغد)