المؤمل أن تنتهي الفتنة في المفرق بعد الهدوء الحالي، وأن نتجاوز الأحداث التي دارت خلال اليومين الماضيين، وأسفر عنها حرق منازل ومحلات تجارية، وفوضى أمنية، وشكاوى متبادلة.
المفارقة الرئيسة في هذه الأحداث أنّ المشهد ما يزال ملتبساً على الرأي العام والمراقبين، والقصص الإعلامية متضاربة ومتباينة في نقل ما يحدث، وينتابها القلق من التعامل مع هذه القصص الحسّاسة.
لدينا روايتان رئيستان؛ الأولى تتبناها بعض وسائل الإعلام والأوساط الرسمية، وتختصرها بأشخاص يجبرون المحلات التجارية على دفع الأتاوى لهم، ما دفع بالأهالي المتضررين، من أبناء العشائر، إلى الانتقام بإحراق محلاتهم ومنازلهم، ومطاردتهم، مع شكوك حول ما حدث من إطلاق نار وتبادل للاتهامات.
الصدى الواسع لهذه الرواية نجده في بيان لشخصيات من عشائر بني حسن، بعد اجتماع واسع لهم، طالبوا بعده الحكومة باتخاذ الإجراءات المطلوبة لمنع "الأتاوات"، وبإخراج العائلات المعنية، خلال فترة محدودة.
على النقيض من ذلك، فإنّ الرواية الثانية تتحدث عن اعتداء على ناشطين في الحراك الإصلاحي، ونجد صداها فوراً في بيانات ومقالات، أبرزها بيان لجماعة الإخوان المسلمين دانت فيه ما وصفته بالاعتداء على "ممتلكات بعض المواطنين المشاركين في الحراك الشعبي"، وحذّرت من تداعيات الأحداث والتواني الأمني.
ثمة مسافة واسعة وكبيرة فاصلة بين الروايتين. لكن ما يثير الارتباك هو أنّنا لسنا، كما جرت العادة سابقاً، أمام "عنف اجتماعي" محض، على خلفيات انتقامية، بل تتخذ الأحداث الحالية طابعاً أو لوناً سياسياً، إما من خلال "الخلفيات الاجتماعية"، أو من خلال تبني بعض بيانات المعارضة للرواية الثانية، والتأكيد على أنّ ما حدث هو تقصد للاعتداء على ناشطين سياسيين، مشاركين في الحراك الإصلاحي، وهو بالطبع أخطر ما يمكن أن نتصوره في اللحظة الراهنة.
هنالك زاوية أخرى من القراءة تتحدث عن فوضى أمنية على خلفية الأحداث الأولية، استُغلت –لاحقاً- من قبل أوساط مختلفة للتحريض والاعتداء على ناشطين سياسيين، واستثمار ما يحدث لترهيبهم!
لو تجاوزنا الروايات إلى السؤال الأكثر أهمية، ويتمثل في صورة الدولة وهيبتها واحترام القانون، ودور الحاكم الإداري والأمن.. فإنّنا على الحالات جميعها، لن نجد فيما يحدث عملياً إلاّ فوضى أمنية وسياسية محكومة بمنطق بعيد كل البعد عن حكم القانون ومفهوم المواطنة!
فلنفترض، جدلاً، أنّ المبتدأ كان عند أناس يقومون بأخذ الأتاوات، مع وجود تساهل أمني، فهو أمر لا يجوز أن يتم القبول به، بأي حال من الأحوال، ويمثّل تقصيراً من الدولة، يقابله تقصير أكبر بالسماح بإحراق المنازل والمحلات التجارية، وإنذار السلطات المعنية بترحيل الطرف الآخر، إذ إنّ هذا المشهد مقلق جداً، يعكس ضعف الدولة وهشاشتها.
في الحقيقة، ما يحدث ليس مُنبتّاً عن سياق متكامل سمح فيه للبلطجة بالنمو والصعود والانتشار، فأصبحت جزءاً رئيساً من المشهد السياسي والأمني. فطالما يُسمح للبلطجية بالاعتداء على المسيرات والاعتصامات، وتهديد الناس، بل ويتمتع من يحركون هؤلاء من نواب وشخصيات سياسية بالامتيازات المعنوية، ويحظون بدلال رسمي، فلن نحتاج بعد اليوم إلى الدولة!
سيضطر كل إنسان أو قوى سياسية أو مدنية أو عشيرة أو تجمع معين أن يتولى الدفاع عن نفسه بنفسه، ويكون دور الدولة حينذاك فقط "وسيطاً"، وليس سلطة تفرض القانون والنظام على الجميع!
بالطبع، ما نتمناه ألا يكون هنالك بالفعل استهداف لناشطين سياسين وإصلاحيين، كما تؤكد بيانات المعارضة، وإلاّ فإنّ هذه الحادثة ستكون سابقة تنذر بما هو أسوأ وتقتلع الثقة من جذورها في خطاب الدولة ودعاواها تجاه الإصلاح!
m.aburumman@alghad.jo
(الغد)