ظل إدريس البصري على مدى ربع قرن يتمتع عملياً بنفوذ الرجل الثاني في المملكة المغربية ، وذلك خلال الفترة من 1974 إلى 1999 حيث أقاله الملك محمد السادس من منصبه ، وكثيراً ما حمل البصري إلى جانب منصبه وزيراً للداخلية حقيبة الإعلام ، وكان العاهل المغربي قد تقلد عرش بلاده منذ أشهر فقط بعد وفاة والده الملك الحسن الثاني ، حين اتخذ هذا القرار الذي شمل عدداً من كبار معاوني البصري .بالأمس توفي الرجل في منفاه الاختياري في باريس عن 69 عاماً ، والذي يستحق وصفه بأنه أشهر وزير داخلية عربي. وتشاء المصادفات بعد إرادة المولى ، أن يغادر الرجل دنيانا عشية الانتخابات البرلمانية في بلاده المقررة في السابع من أيلول المقبل ، وهو الذي كان يشرف على كل كبيرة وصغيرة في هذا الاستحقاق ، والذي ناصبته المعارضة العداء لشدة التضييقات التي تعرضت لها أحزابها في عهده . ولولا إرادة الملك الراحل الحسن الثاني ، لما قيض لتجربة التداول على السلطة أن تجد طريقها للتنفيذ قبل نحو عقد من الزمن ، حين عاد عبدالرحمن اليوسفي المعارض البارز وأحد قادة الاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية من منفاه لكي يتسنم بعد فوزه في الانتخابات ، منصب الوزير الأول ( رئيس الحكومة ) .
الآن يفخر المغاربة بأن انتخاباتهم جرت قبل خمس سنوات ، دون تدخل يذكر من الإدارة وإنما بشوائب أخرى ،وسوف تجري الانتخابات بعد عشرة أيام بوجود مراقبين ( ملاحظين حسب التعبير المغربي) من مندوبي آلاف المرشحين والهيئات الاجتماعية المحلية وهيئات دولية ، والهيئات الأخيرة واكبت العملية فبل بدئها .
من المفارقات أن البصري بعدما أمضى سحابة عمره المهني ، متابعاً لنشاطات ورموز المعارضة على اختلاف تشكيلاتها ، قد تحول في منفاه إلى صوت معارض ! . فقد اعتبر إنشاء هيئة للعدالة والإنصاف تفتح ملف المظالم وخاصة في المعتقلات ، بأنه يراد بها الدعاية للدولة ليس إلا ! . كما اعتبر قيام أية تظاهرة في مدينة العيون الصحراوية أو في أي مكان آخر دليلاً على ما يكتنف وضع الحريات ، كما صرح بذلك لصحف فرنسية واسبانية وجزائرية .
ومنها أيضا تصريحاته خلال العام الجاري ، بأن الحل الوحيد لمشكلة الصحراء الغربية يكمن في إجراء استفتاء للسكان ، وذلك في الوقت الذي كانت فيه حكومة بلاده تطرح في مجلس الأمن وخارجه ، مقترحها لحكم ذاتي موسع للصحراء والصحراويين ، وهو المقترح الذي بدأ يستقطب تأييداً دوليا .يذكر هنا أن البصري الراحل كان يحوز على ملف الصحراء في إدارة بلاده ، وكان يوصف بأنه الأكثر تشدداً إزاء هذا الملف بين بقية المسؤولين .
هذه المواقف أدت لتوتير علاقاته بسلطات بلاده ، فحرم لبعض الوقت من تجديد جواز سفره ، وهو الذي كان يمنح ويمنع مثل هذه الوثائق الرسمية ، كما تأخر صرف مستحقاته المالية عن انتهاء خدمته الطويلة في أرفع المواقع ، قبل أن يأمر الملك محمد السادس بتسوية أوضاعه .
لقد انقضت حياته السياسية والمهنية منذ ثماني سنوات شمسية ، وقبل أن تمتد إليه يد المنون بالأمس . على أن اسمه سوف يظل لصيقاً بذاكرة ملايين المغاربة ، وكذلك صورته التي ظلت تحضر لربع قرن على شاشة التلفزة الوطنية ، فقد كان أكثر من وزير ورجل دولة ، إنه رمز لعهد طويل ولسلطة شبه مطلقة كانت تنازع اتجاه بلاده ، في مضيها على طريق البناء الديمقراطي .
mdrimawi@yahoo.com