واجهت وتواجه الليبرالية الجديدة, في كل البلدان, مقاومة جبهة عريضة من القوى الاجتماعية التقليدية, يصطف فيها البرجوازيون الوطنيون والكادحون, والمثقفون التقدميون والفلاحون المتدينون, واليسار واليمين والوسط, والحركات النسائية والعشائر.والسبب في ذلك, ليس في التعارض المطلق مع مصالح كل هذه القوى. فهناك مشتركات بين برامج الليبرالية الجديدة والمصالح الجزئية لفئات اجتماعية مختلفة من الرأسماليين والشباب والنساء. لكن ما يربط التحالف الاجتماعي الواسع ضد الليبراليين الجدد- وهم الوجه الآخر للمحافظين الجدد في الولايات المتحدة - انهم ينطلقون من رؤية تقوم على »الهندسة الاجتماعية« التي تعتقد بامكانية تشكيل واعادة بناء المجتمعات والدول, وفقا لخطة مسبقة, وبغض النظر عن ارادات البشر ومشاعرهم وثقافاتهم. فالليبرالية الجديدة تنظر الى الشعوب ككتل سكانية ذات بنى وحاجات بيولوجية لاغير.
تهزأ الليبرالية الجديدة من الثقافات الوطنية, ومن مفاهيم السيادة والاستقلال والاعتزاز القومي والروابط التراثية والعدالة الاجتماعية وحق البشر في الحياة الكريمة والعلاقات الوجدانية غير المرئية, ولكنها التي تجعل من الانسان انساناً.
وبالنظر الى أيديولوجيتها النخبوية الداروينية, وتعارضها السياسي الثقافي مع الاغلبيات الاجتماعية, فان الليبرالية الجديدة, تعادي الديمقراطية, والمشاركة السياسية, ولا تعترف بالرأي الآخر, ولا تؤمن بالحريات, ما عدا حرية التجارة و»الاستثمار«. وفي مواجهة المجتمعات, يلجأ الليبراليون الجدد الى وسائل القسر الاداري والأمني, على نحو يخجل منه الاستبداد التقليدي.
فالمستبد التقليدي يمنع الرأي الآخر والمشاركة السياسية المباشرة للفئات الاجتماعية, ولكنه يأخذ مصالحها ومشاعرها وتقاليدها بعين الاعتبار اما الليبرالية الجديدة, فاستبدادها عنيف وشامل ولا يراعي مصالح المجتمعات وثقافاتها.
وما ينبغي الانتباه له هو تلك العلاقة الجدلية بين المحافظين الجدد في الولايات المتحدة, وبين الليبراليين الجدد خارجها. اذ يتساءل المرء: كيف تنقلب المحافظة الامريكية الى ليبرالية في البلدان الاخرى؟
ويمكن توضيح هذه العلاقة, فقط, بالعودة الى مفهوم الكمبرادور - الوكيل - السياسي. فالليبرالية الجديدة هي التعبير الايدولوجي, خارج الولايات المتحدة, عن مصالح الاستعمار الامريكي التي لا تتحقق من دون إلغاء الشخصيات الوطنية للدول وفتح الاسواق وحرية رأس المال وشطب الثقافات المحلية وإضعاف القوى الاجتماعية التقليدية وإلغاء مبدأ السيادة وتحويل الحكومات والهيئات السياسية الى ادوات ادارية وأمنية منفصلة عن المجتمعات.
المثال الأبرز لفكرة إعادة هندسة المجتمعات, نجدها في المشروع الامريكي في العراق, حيث قام المحافظون الجدد الامريكيون بالتدخل العسكري المباشر وتدمير الدولة العراقية والمجتمع العراقي, بهدف »اعادة بنائه« على مقاس المصالح النفطية الامريكية ولكن هذا المشروع فشل, وتورطت واشنطن في حرب طويلة, تلزمها, الآن, بالعودة الى التعامل مع الايقاع الخاص بالمجتمع العراقي.
غير ان مشاريع إعادة بناء المجتمعات والدول, لا تتم كلها بالحديد والنار, ولكن, ايضا, من خلال قوى محلية متعاونة هي جماعات الليبرالية الجديدة التي تسعى الى اعادة هندسة المجتمعات والحكومات والهيئات التمثيلية والسياسية, على مقاس المصالح الامريكية في كل المجالات.
وفي السنوات الخمس الأخيرة, استطاعت مجتمعات عديدة ان تضع حدا لهذه المحاولات التخريبية, وتعيد الاعتبار للدولة الوطنية, كما حدث في روسيا وعدة بلدان في امريكا اللاتينية.
وتنتظر الشعوب العربية, انهيار الاحتلال الامريكي في العراق, لكي تخوض معركتها مع جماعات الليبرالية الجديدة, ذلك أنها - أي الشعوب - تدرك بحدسها المباشر ان تلك الجماعات النخبوية المعزولة, محمية بالجيوش والأساطيل الامريكية في المنطقة, وهذا هو السر بان معظم الادارات الحكومية العربية, تعارض خطط رحيل الاحتلال عن العراق.
لا يمكن لليبرالي الجديد ان يكون ديمقراطيا فالديمقراطية هي القبول بالآليات السياسية لمشاركة القوى الاجتماعية في صنع القرار الوطني. وهذا يعني الاعتراف بتلك القوى ومصالحها ورؤاها وإرادتها وثقافتها .. الخ وهو ما يتناقض مع عقلية »الهندسة الاجتماعية« أعني: لا ديمقراطية من دون إزاحة الليبرالية الجديدة.