درعا .. ثورة الفلاح المدلل
16-08-2011 07:16 AM
لم يكن يخطر ببال الطبيبة عائشة المسالمة أنها تمثل جسرا تاريخيا بين الثورة المصرية والثورة السورية. وعلى خلاف السوريين الذين علمتهم عقود من حكم البعث القدرة على التمثيل واصطناع الولاء طلبا للسلامة ، وأقله الحذر الشديد، أعمتها فرحة سقوط حسني مبارك واتصلت يوم 11 شباط من درعا مهنئة صديقة لها من بلدة خربة غزالة متمنية " عقبى عندنا". ولم يخطر على بالها أن آذان عاطف نجيب مدير الأمن السياسي في درعا وأحد خؤولة الرئيس بشار الأسد واعية لتلك اللحظات المفصلية ،ولم تسه عن شاردة ولا واردة..
مع أن اصطناع الولاء هو ما خرجت به ليزا وادين في أطروحتها " السيطرة الغامضة " فعلاقة الناس بالدولة تقوم على اساس التظاهر " كما لو أنها". وكان حريا بالطبيبة أن تقول وفق رواية التلفزيون السوري أن مبارك سقط لأنه" نظام كامب ديفيد"، وان قائدنا باق إلى الأبد لأننا " منحبك" وفق اللوحات الدعائية الضخمة، ولأنه عل قوله قريب من" معتقدات الشعب". من الواضح أن " السيطرة الغامضة" أخذت بالتفكك لصالح " الثورة الغامضة" التي فاجأت الجميع. .
اعتقلت الطبيبة وصديقتها. لم يخطر على بال نجيب أنه بذلك يدمر ما أنجزته عقود من سنوات البعث في حوران. فالطبيبة تمثل جيلا من الفلاحين جنى مكاسب نظام قل أن تجد نظيرا له في العالم العربي في النهوض بالفلاحين وتمكينهم سياسيا واقتصاديا.وهو ما أكده من قابلتهم من شباب درعا وحوران. نقل لي واحد من الشباب الثوار عن والده أن أهل حوران الفلاحين ،قبل البعث ، كانوا يدخلون دمشق على استحياء من أهل المدينة المترفعين عنهم.
لم يتوقف تمكين أهل سهل حوران الخصيب على دعم الفلاحة اقتصاديا ودعم الحضور النقابي لاتحادات الفلاحيين سياسيا، تعداه إلى حضور لافت في الدولة، وفي الحلقة السياسية والأمينة والعسكرية الضيقة. ربما ساعدها في ذلك أنها لم تكن من المدن المتمردة في أيام المواجهة مع جماعة الإخوان المسلمين في عقد الثمانينات. وإن كان لها مساهمتها المحدودة.من الوجوه السياسية لدرعا رئيس الوزراء الراحل محمود الزعبي ، ونائب الرئيس فاروق الشرع ، ومن رموزها الأمنية رجل الاستخبارات القوي في لبنان رستم غزالة، ومدير أمن سياسي دمشق يعرب الشرع وغيرهما..
ومن الواضح أن تقديم أبناء حوران كان محاولة لنفي الصبغة الطائفية للنظام، وتقديمه بصورة طبقية وفي إطار الفلاحيين يندرج أبناء حوران مع العلويين في مواجهة الطبقة المدنية البرجوازية. وخصوصا أن المدن شكلت قلب المواجهة مع النظامفي الثمانينات سواء في حلب أم دمشق أم حماة، والانقلابات في سورية لم تشذ عن ظاهرة عربية ؛انقلاب ضباط الريف على أبناء المدن. .
رصد الأمن السياسي تمرد الطبيبة عائشة المسالمة وصديقتها العفوي ، تماما كما رصد ملايين المشاهدين تمرد سميرة المسالمة رئيسة تحرير صجفية تشرين على الهواء في حديثها على قناة الجزيرة عندما قالت «إن هناك خرقا للتعليمات المتعلقة بعدم إطلاق النار، ويجب محاسبة الذين يقومون بإطلاق النار حتى لو كانوا من الأمن وتبيان الأسباب التي دفعتهم إلى مخالفة التعليمات القاضية بعدم إطلاق النار». أقيلت من منصبها وهي أول سورية تنجح في الوصول إلى موقع رئاسة التحرير. وكأن من يمكنهم النظام ، فلاحة أو امرأة هم من ينقلبون عليه . .
لم تكن درعا تشكو من تهميش قياسا على غيرها من المحافظات السورية، على العكس بنظر أبنائها هي محافظة "مدللة نسبيا"، سواء بسبب سياسات حزب البعث الداعمة للفلاحين ، أم بسبب الرخاء الاقتصادي النسبي العائد إلى عمل قطاع كبير من أبنائها في دول الخليج والمهاجر. وما حصل فيها يقرأ بحسب ما ذهبت إليه السينمائية عزة الحسن " هيستريا الصورة". فالمشاهد العربي أبهرته صور الثورات العربية التي أسرته على مدار الساعة، وعلي غير وعي تقمص شخصية الثوار في مواجهة الاستبداد. تماما كما أصيب أهل بلدة هندية بالمغص لأن بطل مسلسل مشهور تألم من معدته فتألموا، من غير علة حقيقية.
اعتقلت الطبية المسالمة وأهينت هي وصديقتها، لكن ذلك لم يكن سلوكا استثنائيا لعاطف نجيب مدير الأمن السياسي في درعا المشهور بفساده وقسوته. لم يطل اعتقالها،وأفرج عنها بعد تدخلات أقاربها الذين يدركون جسامة الذنب الذي اقترفته في مساسها بشخص الرئيس. من لم يقبل تلك الإهانة، تأثرا ب"هيستيريا الصورة" الفتيان والأطفال من أقاربها. فخرجوا من المدرسة في تظاهرة عفوية وكتبوا على الجدران ما شاهدوه وسمعوه على مدار الساعة" الشعب يريد إسقاط النظام". رصدت آذان عاطف نجيب ذلك، ولم تشفع لهم طفولتهم كما لم تشفع لقريبتهم أنوثتها..
تقبل الأهالي الاعتقال، وصبروا أياما لعل عاطف نجيب يكتفي بتأديبهم ، سيما أنهم تعرضوا لتعذيب وحشي بالكهرباء وخلع الأظافر وغيرذلك من وسائل متبعة في الأمن السوري. توجه الشيخ محمد عبدالعزيز ابازيد إلى عاطف نجيب متوسطا للإطفال، فتلقى ردا مهينا " أنسوا أولادكم، ونساؤكم ستحمل منا إن لم تستطيعوا تحميلهم"! لم تكن تلك العبارات الفاحشة كما تعذيب النساء والأطفال سلوكا جديدا على عاطف نجيب. لم تتقبله الشخصية العشائرية تلك الإهانة، وعاد إلى قومه غضبانا..
يقول محدثي وهو ممن شاركوا في أول مظاهرة في درعا أن الإهانة كانت الشرارة التي ولدت الثورة في مجتمع تراكم فيه الغاز المشتعل عبر عقود. فالدلال النسبي للمحافظة لم ينزعها من سياق القمع المنهجي الذي يتعرض له الشعب السوري. فالأمن حاضر في كل شيئ لا تستطيع أن تفتح مصلحة بسيطة دون موافقة ودفع رشى ، رخصة حفر البئر وصلت تكاليفها ألى مليون ونصف مليون ليرة سورية، مليون لعاطف نجيب ونصف المليون للمحافظ فيصل كلثوم. ناهيك عن السلوك الطائفي الذي بدأ يطفو إلى السطح من خلال منع النقاب الذي بدا وكأنه احتجاج ناعم من النساء على ما اعتبر هيمنة طائفية..
لم يكن سقف المظاهرة يتعدى الإفراج عن الأطفال وإقالة عاطف نجيب مدير الأمن السياسي والمحافظ فيصل كلثوم، وهما من أسوأ ما ورث بشار عن والده، فكلاهما شارك في أحداث الثمانينات، وفيصل كلثوم كان من قلة حصلت على مسدس " شرف البعث" الذي قلده حاظ الأسد لمن أبلوا في مجزرة حماة التي ذهب ضحيتها ما لا يقل عن عشرين ألفا من المدنيين. ذلك الإرث الأمني الرهيب لم يكن ليرعب فتية درعا في يوم الجمعة 18 -3-2011،فعقود القمع التي نشأ فيها الجيل الجديد أورثته خبرة في التعامل مع أجهزة الأمن.
أدرك الشباب الذين تداعوا عفوا، ولم يكن يربطهم تنظيم ، أن الأمن سيركز على الجامع العمري قلب المدينة، فاختاروا تضليلا له انطلاق التظاهرة من جامع حمزة والعباس. متوجهين إلى الجامع العمري .يؤكد محدثي ردا على أسئلتي أنه لم يكن ثمة تخطيط ولا تنظيم سابق، وإن ما حصل كان ابن تلك اللحظة. سألتها عن علاقات وخلفيات الشباب، كان بعضهم قد اعتقل أخوة لهم بتهم السلفية. لكن الحضور السلفي لم يكن واضحا في الشعارات الأولى التي وضعوها" الله أكبر.. الله سورية حرية وبس" . وهي الشعارات ذاتها التي سبق تردادها بيومين في الجامع الأموي في دمشق في مظاهرة محدودة . وفي تواضع يدرك محدودية القدرات ويضع سقف للمطالب رفع شعار " الشعب يريد إسقاط المحافظ"
لا يبدو أن الجهات الأمنية وضعت في استراتيجيتها إطلاق الرصاص على المتظاهرين، فالمسيرة خضعت لمراقبة وحصار وتهديد، لكن الطبع الدموي الذي ترسخ في عقود غلب التطبع المصطنع لمواجهة رياح الربيع العربي. أحد أفراد دوريات الأمن خاطب المتظاهرين "بدكم حرية يا كلاب"فخرج بعض المتظاهرين عن سلميتهم وحطموا السيارة التي انسحبت. الطبع الدموي احتوي قليلا. في " هيستريا الصورة" يتقدم المتظاهر حسام عياش نحو الشاهرين بنادق كلاشينكوف الروسية ، ويفتح صدره متحديا، وكأنه يعيد مشهدا شهيرا جرى في غضون الثورة المصرية، وقال" إذا كنت رجلا أطلق الرصاص" التزم العسكري ، على ما يبدو بأوامر عدم الإطلاق،لكن ضابط صف في الأمن غلبه طبعه، فسحب مسدسة وأطلق الرصاص في رأس حسام. استنفر الأمن ونزلت في الملعب البلدي 12 طائرة مروحية تقل قوات أمنية خاصة.
لم يكن يدري ضابط الصف أنه يصيب نظام بشار الأسد في مقتل لا شابا أخذته جاذبية الصورة. ومن لحظتها لم يتوقف نزف الدماء في سورية. طغى الطبع الأمني الدموي وقتل بعدها متظاهر ثان هو محمود الجوابرة وعاد المتظاهرون السلميون بخمسة جثث . وهو ما عنى خمس مظاهرات أخرى في اليوم التالي. يصعب الجزم باستراتيجية النظام في تلك اللحظة. هل كان إطلاق الرصاص الحي ضمن خطة أم هو طبع دموي تجلى عفوا؟.
يغلب على الشباب صفة المحافظة والتدين، وتلك الصفة نوع من معارضة النظام الذي ظل حريصا على محاربة مظاهر التدين، ويحمل الشباب ذكريات مريرة في أيام خدمتهم العسكرية من استهداف للرموز الدينية وتضييق على ممارسة الشعائر، في جو طائفي مكبوت. وفي أنظمة استبدادية لا يبقى مجال عام للتواصل والتجمع غير دور العبادة، وهذا ما شهدته كثير من دول أوروبا الشرقية، هنا برزت شخصية الشيخ أحمد الصياصنة المبعد عن الخطابة والإمامة بسبب "استقامته وجرأته" على وصف محدثي. حاول الشيخ الصياصنة في اليوم التالي 19-3 استيعاب الشباب والتوسط لتحقيق المطالب ، واضطرت السلطات الأمنية التي حاربته للقبول به وسيطا مع المتظاهرين. ولكن الوساطة لم تجد ، ولم تلب المطالب ، فتصاعد هتاف المتظاهرين " ثورة ثورة .." وعلا شعار " الشعب يريد إسقاط النظام" في وجه زخات الرصاص. والشيخ الوسيط قتل ابنه لاحقا.
من سوء حظ النظام مع أهالي درعا أن أحد شبابها ؛أبو الحسن أبا زيد، كان قد أسس شبكة شام الإخبارية على الإنترنت. وهو من جيل المهجرين خارج سورية ، فوالده خرج على خلفية المواجهة مع الإخوان المسلمين في الثمانينات وعاشت العائلة في اليمن. عندما أسس الموقع قبل الأحداث باسبوعين لم يكن يأمل أن تقوم ثورة في سورية وفي بلدته تحديدا. لعبت العلاقات التقنية المعقدة جنبا إلى جنب مع العلاقات القرابية ، ثم توسعت الشبكة لتشمل سورية كلها ، وينخرط فيها مسيحيون وعلويون. .
دمر النظام البنى الحديثة للمجتمع من نقابات وأحزاب وجمعيات، ولم يتبق غير الروابط القرابية والأهلية، وهي أكثر فاعلية وحماسة من الأولى. فقيم النخوة والثأر والتضامن لا تقاس بقيم الواجب واللإلتزام المهني والسياسي والفكري. تداعت عشائر درعا المدينة أولا، ثم انضمت لها القرى المجاورة. ورد النظام بدموية استفزة ردودا غير متوقعه وصلت إلى درجة إحراق تمثال الرئيس الراحل بشار الأسد. بعد ما عرف بمجزرة القرى في 23 – 3 - 2011 إذ أطلق الرصاص الحي بدون استفزار على من توافدوا تضامنا من القرى المجاورة. في الأثناء حاول النظام الاستفادة من روابط الدم مع رجالاات النظام، فأوفد رستم غزالة في اليوم التالي للمظاهرة الأولى معزيا ومفاوضا، وبعدها بيومين أرسل فاروق الشرع . وظل طيلة الأحداث يلجأ للضباط والمسؤولين من أبناء حوران للتوسط والتهدئة.
لا القمع الدموي خوّف الناس ولا الوساطات والترضيات أغرتهم. في الجمعة التالية 25- 3 - 2011رد متظاهرو درعا على زيادات الرواتب التي أعلنت عنها بثينة شعبان " يا بثينة يا شعبان شعب درعا مش جوعان"، و" يا بشار اسماع اسماع دم الشهدا ما بنباع".وبعدها انضمت المحافظات السورية تباعا في ثورة لا يمكن أن تتوقف دون سقوط النظام. وهو ما لم يكن هدف المحتجين في البداية، وما جعله هدفا هو حماقات النظام الأمني الذي أخطأ في البداية ولا يزال يخطئ ، وعلى ما يبدو فإن "هيستريا الصورة" تأخذ الشعوب كما تأخذ الأجهزة الأمنية. فالأخطاء التي وقع فيها جهازا الأمن في تونس ومصر كررها جهاز الأمن في سورية ببشاعة لم ترعب الناس الذين عاشوا في رعب عقودا. لم يحم جهاز الأمن الدولة بل دمر إنجازاتها ومكتسباتها على قلتها. .
عن الحياة اللندنية.