فوق التل تحت التل .. إسأل عنا وصفي التل
حازم مبيضين
27-08-2007 03:00 AM
لايحتاج الاردنيون إلى حضور ذكرى استشهاده ليتذكروه , لأن ذكرى وصفي التل حاضرة أبدا في وجدان الاردنيين سواء أتوا من سفح شيحان أو من سهول إربد ومعان أو من الاغوار أو حملت أعطافهم روائح بحر العقبة أوتفتحت عيونهم على أجمل ما خلق الله في رم , ورائحة دمه الزكية فواحة وعالقة بهدب كل كوفيات النشامى من جند الاردن , وكتاب مجده ما يزال مفتوحا امام كل المخلصين ليقرأوا التجربة الصادقة ويتعلموا منها . تفتحت عينا وصفي عام 1919على شموخ قمم جبال كردستان العراق المكللة بالثلوج الحاضنة لثوار البيشمرجه والغنية بكل ما تشتهي النفس حيث ولد هناك لأم كوردية من عائلة بابان فحمل بين طيات روحه عشق الصعب والجبال العصية الا على الرجال الرجال مثلما تدفقت في روحه عواطف المحبة والحنان كتدفق شلالات كوردستان التي كانت لغته الاولى ولمدة استمرت حوالي الست سنوات قضاها بعيدا عن والده الشاعر البوهيمي مصطفى وهبي ( عرار ) الذي لم ير ابنه حتى بلغ السادسة من عمره اذ عاد بعيد زواجه من السيده منيفه بابان الى الاردن ليبدأ مشوار العمل المتقطع في دوائر الدولة . وليبدأ رحلة رائعة من الشعر الذي حافظ على موقع الصدارة لعرار على خريطة الشعر الاردني حتى يومنا هذا .
حين عاد وصفي مع امه الى وطنه كان مجبرا على تعلم العربية , اذ لم يتقن حتى ذلك الوقت غير لغة والدته – الكورديه – وكان عليه البدء بالعمل في تلك السن المبكرة كمترجم ما بين أمه وبقية أفراد العائله , ويبقى متنقلا مع والده في ترحاله مدرسا ومتقلدا مناصب حقوقية في إربد والشوبك .
من جبال جلعاد التي ظلت تذكر وصفي باول ما وقعت عليه عيناه إلى ساحل بيروت المدينة الاكثر تحررا وتقدما في الوطن العربي آنذاك , فبعد ان أنهى وصفي دراسته الثانوية من مدرسة السلط الثانوية في العام 1937 التحق بكلية العلوم الطبيعية في الجامعة الاميركية ببيروت متأثرا في أفكاره السياسية بحركة القومين العرب التي كانت على خلاف مع حركة القوميين السوريين , لكنه فيما بعد تبنى الكثير من افكار القوميين السوريين فاتحا باب الاردن للكثير منهم وقد لجأوا إليه بحثا عن الامان بعد أن فقدوا هذه النعمة في اوطانهم .
لم يكن وصفي منظرا سياسيا , لكنه كان رجل عمل أولا واخيرا , وحين استعرت حرب فلسطين في أربعينيات القرن المنصرم كان وصفي يترك مهنة التدريس متمنطقا سلاحه وملتحقا بجيش الانقاذ بقيادة فوزي القاوقجي حيث حارب في الجليل الأعلى ضابطا وصل الى رتبة مقدم , إلى أن أحكم اليهود قبضتهم على جزء غال من فلسطين سنة 1948 وخرج وصفي منذ ذلك اليوم بالنتيجة التي استشهد من أجلها وهي أن معركتنا مع اليهود معركة وجود لا حدود
غير أن الارادة الصلبة لوصفي والايمان بالحق لم تتاثرا بالهزيمة التي طاولت كل الجيوش العربية فانتقل إلى وجه آخر من وجوه الجهاد مستقرا في القدس كعامل في المركز العربي الذي كان يديره موسى العلمي.
بعدها تنقل ابو مصطفى في العديد من وظائف الدولة من مأمور ضرائب في ضريبة الدخل الى مديرية التوجيه الوطني التي كانت مسؤولة عن الإعلام آنذاك مطلع الخمسينات. والتي تسلم إدارتها عام 1955, قبل أن ينتقل إلى السفارة الاردنية في بون عام 1961 ليعود بعدها رئيسا للوزراء عام 1962 وهي حكومة لم تعمر طويلا , لكنه عاد عام 65 ليشكل وزارته الثانيه , ثم ليعود إلى هذا الموقع عام 1970 مدافعا عن ما كان يؤمن بانه الحق , وهو ما قاده إلى درب الشهادة عام 71 امام فندق شيراتون في القاهره على يد مجموعة من أعضاء منظمة أطلقت على نفسها اسم أيلول الاسود .
كان وصفي نظيف اليد كالمطر المنهمر على سهول الشمال وكان بصلابة الفولاذ الدمشقي وهو يخوض حربا ضد الفساد والمحسوبية , وتوفي مدينا لمؤسسة الضمان الاجتماعي بحوالي المئة ألف دينار كان اقترضها ليكمل بها إنشاءات بيته ومزرعته في الكمالية التي أطلق منها شعاره الكبير عمان هانوي العرب , داعيا إلى مقاومة عربية فدائية للدولة العبرية ومؤكدا أن هذه الحرب فقط ستعيد الحقوق لاهلها .
وإذا كان وصفي عمليا فان فكره الوقاد دفعه إلى تاليف كتاب ( فلسطين .. دور العقل و الخلق في معركة التحرير ) وهو كتاب ما زالت افكاره صالحة إلى يومنا هذا لكل من يعمل لتحرير فلسطين
ولن ينسى عامل واحد في السياسة ان وصفي كان من احرق ملفات دائرة المخابرات العامة عام 1965 ليفتح صفحة جديدة في علاقة المواطن بالدولة وأعقب ذلك قانون العفو العام ثم ان الرجل الاستراتيجي كان من اوائل من فكروا وعملوا على انشاء اول جامعة في الاردن وكان لوصفي ان يختار موقعها الحالي في الجبيهه ولن ينسى صحفي اردني واحد ان وصفي كان المؤسس الحقيقي للراي واختار لها اسمها ولتظل صحيفة الاردن الاولى وفية للمؤسس وحاملة لفكره وطموحاته سواء كانت اقليمية او محليه. وحين فجع الاردن بنبأ استشهاد ابنه البار كان قائد الوطن الحسين رحمه الله ينعيه قائلا ( عاش وصفي جنديا منذورا لخدمة بلده وأمته يكافح بشرف من أجلها وقضى كجندي باسل فيما هو ماض بالكفاح في سبيلها برجولة وشرف .) .. ويومها تجاوبت في سهول الوطن وعلى قمم جباله أصداء أبيات شعر خاطب فيها عرار ابنه وصفي ( ودرب الحر يا وصفي كدربك غير مأمونه ) وإذا كان وصفي لم ينجب من زوجته سعدية الجابري ذات الأصول الحلبية فان كل اردني يتمنى لو كان ابنا له .