إطلالة متعالية
لا يكفّ «السياسيون» الأردنيون عن إدهاشنا و إدهاش أنفسهم، على حد واحد و سواء. فما كان لاجتماع طائفة من الرجال أن ينقلب حادثة «سياسية»، لولا أن «السياسة» عندنا تصْدُر عن أشخاص (أو شخوص) و ليس عن مؤسسات و أعراف و سنن و تقاليد مدينية و ديموقراطية. و الأشخاص هؤلاء، الذين تنادوا و أشهروا و جهروا ب«شيء» قيل لنا أنه «تيّار»، آثروا أن يطّلوا علينا من عل ٍ، حقيقةً و مجازاً؛ فهم اختاروا أعلى نقطة في عمان (الدوار الثالث)، و أعلى فندق في الأردن؛ ليعلنوا منه «تيارهم». هذا من الوجه الحقيقي، و أما من الوجه المجازي؛ فقد دلّ دليل ردود أصحاب «التيّار» على أسئلة الصحافة، على حجم التعالي الذي وسمَ «تيّارَهم» بميسمه. «تيار»؟
فإذا عرفنا أن أصحاب التيار تقلّدوا و يتقلدون أعلى المناصب في البلد، فهمنا بعضاً من أسباب و دواعي التعالي المذكور. أما في ما خصّ «التيار» من حيث الاسم، فالحقّ أنّ من أطلق عليه هذا الاسم، قد كنّى عن غير ما سمّى، و أصاب هدفاً خارج المرمى؛ فما رأيناه رأيَ العين لا هو بتيّار و لا هو بحزب، أو حتى مشروع حزب، على المعنى الذي كانته التيّارات في الدول الديموقراطية. و قد يَصْدُق في «تيار» أصحابنا ما قالته «المعتزلة» في وصف «الفاسق» عندما جعلته يترجّح في «منزلة بين منزلتين»؛ بهذا المعنى يترجّح (أو يترنّح؟) «التيار» العتيد بين «فكرة» لم تصبح تياراً، و بين رؤية لم تمسي حزباً.
تستُّر الرطانة على السياسة
و قد يصحّ في «أفكار» «التيار» ما قالته العرب في الشعر، عندما جعلت أعذبه أكذبه؛ فأصحابه يغرفون من مَعين غيبي و أسطوري؛ إذ يورد أحد أركان التيار بعض ما يعتبره «مبادئ» ينهض عليها «تياره»، خالطاً –غيرَ متعمد - بين الديني و السياسي؛ فيأتي على ذكر «الوسطية الإسلامية» و «الاتجاه القومي» و «الثوابت» و يُنْزِلها – كلها و جميعها – منزلةً واحدة. و غني عن البيان أن المبادئ الثلاثة هذه، لا يَسَعها الإبحارَ في مركب واحد، إلا إذا اعتبرنا أن السياسة ضربٌ من الكهنوت. أما كلمة «الثوابت»، فتستوي قرينة كاشفة على طفولة سياسية؛ ذاك أن الكلمة المذكورة كفّت عن الاشتغال منذ أنْ رفع ميكيافيلي جداراً شاهقاً بين السياسة و الأخلاق، و على ما خبرنا و علمنا، فإن الثابت الوحيد في السياسة، هو التغير و التقلب و التبدل و التنازع. من هنا، يتراءى لنا كيف جاءت «مبادئ» أصحابنا مجيئَ فعل ٍمضطربٍ و متلعثم. هكذا تتقدم الرطانة على السياسة، و تتوارى الثانية خلف الأولى، و تتستّر الأولى على الثانية، و على ضعفها (أو عدمها؟)؛ فتنوب منابها، و ربما تقوم مقامها. و خبط العشواء هذا، و غيره، و كثير مثله، هو ما يسمّى في علم الاجتماع السياسي ب«العاميّة السياسية».
أصحاب «التيار»
و «العاميّة السياسية» هذه، هي ما حملت و تحمل أحد أبرز منظّري «التيار» على جعل الإخوان المسلمين قضيته الواحدة و الوحيدة؛ فلا ينفك صاحبُنا يَصْلي «الإخوان» سوء الهجاء؛ مواظباً و منقطعاً لهذه «القضية»، بإصرار لا يأتيه الباطل، و لا تحول دونه الحوائل. و هذه هي «السياسة» كما يفهمها، أو هكذا تناهت له. و أما زملاؤه فلم يُعرف عنهم خوضهم مخاضَ معركة واحدة في سبيل قيَم تنويرية أو ديموقراطية، كما لم يُعرف لهم موقف متقدم من قضايا مثل الثقافة و الصحافة و المرأة. و هذه الأخيرة حيْلَ بينها و بين دخول «التيار»؛ و الحؤول هذا، قد يكون عَوْداً على بدء «الرجولة» إيّاها: تلك الرجولة التي لم تُخْصِب إلا عقماً و استبداداً. فلئن صحّ زعْمُ محيي الدين بن عربي في «أن كلّ شيء لا يُؤنّث، لا يُعوّل عليه» جازَ الافتراضُ أن «تيار» أصحابنا لا يقيم كبيرَ وزنٍ للمرأة كقيمة إنسانية، و رافعة للنهضة و المدنيّة، و تالياً، «لا يُعوّل عليه»، و دائماً، بحسب ابن عربي.
الأصداء و الردود
و إذا علمنا أن الردود الإيجابية على «التيار» جاءت في معظمها من يمينيين عامييّن، تراءى لنا بجلاء موقف «التيار» السلبي (أو المعادي؟) للمرأة. و اليمينيون العاميّون هؤلاء، وجدوا «التيار» وجدانَ المؤمن ضالتَه؛ و هم يجهرون بموقفهم هذا و لا يكتمونه. و أما «اليسار»! (و وضع الكلمة بين مزدوجين هو كناية عن التحفظ و عدم أخذها على محمل الجد!) فقد استقبل «التيارَ» بشيء من النفور و الصدّ؛ و كانت حجته في ذلك أن أصحاب «التيار» قد بلغوا من العمر عتياً، و اشتعلت رؤوسهم شيباً: مثلهم كمثل عجوز فخورة، ترفض أن تصبغ شيبها. غير أن أصداء «الأغلبية الصامتة» كانت أصدق تعبير عما يمكن أن يكون رد الفعل على «التيار»؛ إذ استقبلته العامّة في مبتدأه، بالصدمة، مع ما يرافق ذلك من إمالة الرأس، و اختلاج العنق، و مطّ الشفتين، و رفع الحاجبين، معاً و جميعاً. و كل هذا لم يلبث أنْ استحال قهقهات من السخرية، كان من العسير كتمها.
اللعب و التهريج
و ربما تكون القهقهة هذه، مبررة أو مفهومة؛ إذ كيف يُراد للشعب الأردني، الذي لا تزال سموم الشاورما و المياه الملوثة طرية في جسده و عقله، كيف له، و الحال هذه، أن يستقبل التيار بغير القهقهة؟ و قد يكون مصدر السخرية أن الشعب رأى إلى «التيار» كنوع من اللعب المرسَل أو التهريج المسترسل؛ و لا ريب أن اللعب و التهريج، فوق ما يثيرانه من «إمتاع و مؤانسة»، فإنهما يقوّضان كل معنى و كل مبنى، و كل جدال و كل مقال، و كل خيار و كل «تيار». و الله أعلم!
.hishamm126@hotmail.com
........................................................................................................................................
من المحرر : الكاتب هو الملقب ب(الاسير) عبر تعليقات "عمون" .