ورحلت أخيرا دون وداع ....
ومثلما كنت تأتي فجأة ودون سابق موعد ... ها أنت رحلت كأروع ما يكون الرحيل ...
وحيدا رحلت ... وبمنتهى الهدوء ... وغريبا بعد ان ملأت الدنيا صخبا .. فكانت تطوح بك حينا وتطوح بها أحيانا ... تلقيك ذات اليمين تارة ... فتقليها ذات اليسار طورا غير آبه بها وبترهاتها وبزيفها وبقشورها وخداعها الآسن ... وآخالك تردد قول المتنبي الخالد :
كذا أنا يا دنيا اذا شئت فاذهبي ... ويا نفس زيدي في كرائهها قدما !!
كطفل بهي كنت مذ عرفتك والى آخر لقاء ومكالمة هاتفية بيننا ..

عرفتك طفلا وانت ابن الخامسة عشرة من عمرك ... وفي عقدك الثالث والرابع والخامس والسادس والسابع ... كنت طفلا بهيا بقلبك وبتخيلاتك وتصوراتك وهواجسك وطموحك .. وجموحك ... هكذا كنت على مدى العمر والى رحلت .

اشياؤك .. حقيبتك .. أوراقك ... كلها ادوات طفولة عابثة في الاختيار وان طغى عليها الترتيب الدقيق الانيق الذي كنت تمتاز به .

عندما ضاقت بك ارض الوطن بما رحبت ... يممت شطر الشام وانت تردد // شآم أهلوك أحبابي // وايمانك الراسخ الذي لا يتزعزع في قلبك ان وطنك لا حدود له رغم حراس الظلام وسدنة الروم والمجوس والتتر الجدد ...

وتقض مضجعك احداث الشام وتتنفيذ مخططات " برنارد لويس " فتغادر الى مهوى القلب والفؤاد ... الى ارض الكنانة ... الابية البهية ... التي رفعت شعار ابن الخطاب رضي الله عنه وآمنت به عقيدة وشريعة ونظام حياة // متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا // وجعلها القائد الخالد سميك " جمال " معقلا للعروبة وكعبة لأحرار العالم ... مذ أذنت في الناس ثورة يوليو بمطلع عقد الخمسينات من القرن الماضي // أن حيا على الحرية والديمقراطية // قبل ان يختطفها غثاة البشر امدا من الدهر ومن ثم تعود بهية كما كانت وستكون .

لقد احتضنك ثلة من اهل مصر الطيبين ... وكأنهم استشعروا بطيبتك وطفولتك ... ضموك الى صدورهم .. أكرموا مثواك ... وأوسدوك لحدك الذي نسأله تعالى ان يكون روضة من رياض الجنة .. وان يحتسبك من عتقاء الشهر الفضيل المبارك كما وعد رب العزة في كتابه الكريم ... واهالوا على جثمانك الطاهر تراب الرحمة باذن الله تعالى وآجروا خير أجر احتسابا لوجهه الكريم واعتبروا ان مجرد عرض الاجر المادي عليهم انتقاصا منهم واساءة لهم ... نعم انهم اهل مصر الطيبين الذين عهدتهم يا جمال .

جمال ... هي سنوات خداعات هذه التي نعيش ... أنت استبقتنا حيث الحقيقة الابدية الناصعة ... والحق المطلق .. والكشف عما خفى ... واختلف وتحارب عليه بنو البشر منذ آدم حتى اللحظة .

ها أنت الان تدرك الحقيقة الضائعة والغائبة المغيبة بالنسبة لنا جميعا منذ كان هذا الكون بما هو كائن وبما سيكون ... وستبقى كذلك الى ان نلحق بك .. وهي فترة وجيزة جدا جدا .. هل هي سنة ؟ أقل ؟ أكثر ؟ عشرون ؟ ثلاثون ؟ أربعون ؟ ... ماذا تعنى بعمر الزمان ؟ أليست وجيزة وقد تكاد تكون قبل ان يرتد اليك طرفك ؟

سنلتقي ثانية كما التقينا في الحياة الدنيا ... وتسامرنا ... ولهونا ... وسفكنا لحظات من العمر فيما نخاله سعادة وانبساط ومسرة مثل حال بقية البشر ... ابتعدنا وتراسلنا ... وتطور الحال ... ابتعدنا ولم نبتعد كان التواصل دائما ومستمرا ... تناجينا ... وكان البوح بيننا بكل ما يقال وما لا يقال ... بنينا الاحلام التي كنا نعتبرها وردية واتضح بعد مضي العمر انها ما هي الا ترهات وسراب خادع من الرؤيا !!

كنت أكثر وعيا وعمقا .. أعترف لك بذلك فقد كنت كزرقاء اليمامة في استشرافك لانهيار مؤسسة الزواج في مجتمعنا ولعلك تمعنت جيدا في قوله تعالى // يا أيها الذين آمنوا ان من ازواجكم واولادكم عدوا لكم فاحذروهم // (سورة التغابن آية 14) // فأخذت بظاهر النص ونفذت بجلدك رافعا قول " ابو العلاء المعري " // هذا ما جناه علي ابي وما جنيت على احد // .

سنلتقي يا جمال لقاء ابديا حيث لا فراق آخر ... ولا زيف .. ولا خداع ولا احترب على توافه الامور وسفاسفها . ونسأله تعالى ان يتغمدنا برحمته التي وسعت كل شيء وان يحتسبك من عتقاء شهر رمضان المبارك الفضيل انه سميع مجيب الدعاء .

سليم المعاني
ssakeet@hotmail.com