قبل سنوات فشلت في ثني صاحبي عن الهجرة بعدما أمضى سنينا طويلة في المهجر فقال: بصفتي ريفيا يرتبط عندي الخوف من اي تلفون او طارق على الباب او حديث عن القادم بذاكرة متخمة بصور الجن والعفريت. صور صاغتها احاديث جدتي في "دار طين" وقبلها في "بيت شعر". هناك زاوية في عقلي مسكونة برعب تهمس لي بهيمنة الشر وقواه الخارقة.لا تكمن مشكلتي مع الذاكرة فقط في المخاوف التي تتداعى اليها رغم سعيي الحثيث للنسيان، بل في تلك التي افقدتني هويتي.
أُدرك ان الذين تعرضوا لخوف العفاريت في طفولتهم كثيرون وان لدى كل واحد منهم قصصه المسكوت عنها. قصصه مع الخوف باعتباره الجريمة الأكبر او هكذا توهمت، حتى نفض الغبار عن الحقيقة الاهم قول سمعته من طاعن في السن كان ينتظر دورا في عيادة عامة وقد بان ان الممرضة أخّرت دخوله وآخرين محاباة لمعارفها، قال موجها كلامه الى مرافقه: لماذا لا تدب الصوت احتجاجا على تجاوز وجودنا "غير المرئي بالنسبة لهم" .
اضاف صاحبي : لحظتها ادركت ان هذا الرجل حدد موقفا واعيا انتشلني من استغراقي في تفاصيل بدت مهمة لي. فهمت ان الابشع هو الصمت وهو ما يقض مضجعي كذلك.
انا تكثيف لكبت إجتماعي ونفسي وسياسي، لا بل انني ارى ذاتي ترميزا لمجتمع يسعى للخروج من براثن خشية عفاريت وجن الماضي وقوى خفية من الواضح انها تقبض على زمام مستقبله.
واسترسل صاحبي كمن يدفع مزيدا من التبريرات لهجرته الثانية: المثقف في بلادنا كائن متناقض، فهو مع التقاليد وضدها، وهو نتاج بيئة ريبة وحذر وخوف، ولكي يحافظ على وجوده يلج مدافعا عن القائم وتقديسه. ختم قائلا: هذا المثقف يا صديقي وصفه ادونيس بانه يجمع بين "سلطة العالم والمفتي". هو حالة فصام سببها ذنب ازلي تجاه ضمير غيّبه مع سبق إصرار ووضاعة.
muleih@hotmaoil.com