لم أستطع إخفاء صدمتي من مقال د. فهد الفانك (في الرأي الغرّاء الخميس 23 آب) حول تقرير كارنيغي الأخير "إعادة التفكير في الإصلاح الاقتصادي في الأردن: مواجهة الوقائع الاقتصادية والاجتماعية"، فقد كنت أتوقع أن تكون مناقشة د. الفانك، وهو أحد المتخصصين المعروفين بالاقتصاد الأردني، موضوعية وعلمية، تعطي التقرير حقه، وتناقش ما يعتقد الفانك أنها أخطاء أو فجوات في التقرير، لكن للآسف الشديد صُدِمت بالمقال وكأنّه موقف شخصي لا أكثر ولا أقل! بالطبع لست متخصصاً بالاقتصاد، ولا معنياً بالدفاع عن كاتب التقرير، لكنني قاريء معني بمتابعة الحالة الاقتصادية، وبالتحديد تداخلها مع الجوانب الأخرى السياسية والاجتماعية، وقد كنت قرأت تقرير كارنيغي والتقيت بالباحث د. سفيان العيسة، وتحدثنا مطولاً عن مضمون التقرير، وكتبت عنه، بعد أن تناقشت مع عدد من المتخصصين الأردنيين بالاقتصاد، ولم أجد موقفاً مشابهاً لموقف د.الفانك، وهو موقف أقرب إلى الغاضب والمنزعج! من كونه موقفاً موضوعياً متخصصاً.
أولى المغالطات التي يقع فيها د. الفانك هي وصفه د. سفيان بأنه "مساعد باحث" مع أنّ د. سفيان هو أحد أبرز الخبراء المتخصصين في مؤسسة كارنيغي المعروفة (وهي أحد أهم مراكز التفكير في واشنطن) حول برامج الإصلاح الاقتصادي في المنطقة العربية، وله العديد من الأبحاث والدراسات المشهودة في هذا المجال!
لا أعلم فيما إذا كلّف الفانك نفسه "عناء" البحث عن خلفية الباحث حتى يصدر حكمه عليه بهذه الصورة الغريبة! وإذا كان فعل ذلك فهل لاحظ أنّ تقرير د. العيسة لا يزال في صدر الصفحة الرئيسة "نافذة كارنيغي للشرق الأوسط"، ولو دخل على صفحة الخبراء لوجد اسم د. العيسة موجوداً فيها، ومعه السيرة الذاتية له، ليصحح بعد ذلك الفانك معلوماته حول الباحث.
بالمناسبة د. العيسة ليس زائراً عابراً، كما وصفه الفانك، بل هو مقيم في المنطقة ودائم التنقل بين دولها، والكتابة في الشأن الاقتصادي، وله العديد من الأصدقاء والخبراء الأردنيين في هذا المجال، والغريب في الموضوع أنّ مؤسسة كارنيغي قد أقامت قبل نشر تقرير د. العيسة ندوة حول مضمون "الإصلاح الاقتصادي في الأردن"، وحضره عددٌ من الخبراء والمتخصصين، وقد دُعِي د. الفانك إلى تلك الندوة ولم يحضر! مع أنّ هنالك مداخلات متميزة حول الموضوع قدمها عدد من المتخصصين، ومنها على سبيل المثال – لا الحصر- مداخلة د. إبراهيم سيف، مدير مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، وهي بعنوان "هل تبلور العقد الاقتصادي- الاجتماعي الجديد في الأردن؟".
بالعودة إلى مقال الفانك حول مضمون التقرير، ولن أتطفل على الجانب الاقتصادي البحت، لكن ما تميّز به التقرير هو الربط المتميز والإطار التفسيري الجيّد لعلاقة المتغيرات الاقتصادية (برنامج الإصلاح الاقتصادي والمراحل التي مرّ بها) بالأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي حدود مقال د. الفانك لا أجده يختلف مع العيسة في شيء! فلماذا هو غاضب!
د. العيسة ليس ضد برنامج الإصلاح الاقتصادي، ولا ينكر بأي حال من الأحوال، منجزاته. وينطلق من أرضية ليبرالية اقتصادية في تقييم البرنامج وتداعياته، وقد تحدث بإسهاب عن النمو الاقتصادي الذي تحقق وعن الانجازات الاقتصادية المختلفة والقفزات التي حققها الأردن، وهو ما أعاد الفانك تأكيده دون أن أميّز، ولا القراء الذين اطلعوا على تقرير كارنيغي، أين وجهة الاختلاف والنقاش!
أما حديث د. العيسة عن التحديات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تواجه برنامج الإصلاح والجوانب التي تستدعي الانتباه والتفكير بها على المدى البعيد، فلا أعتقد أنها موضع خلاف حقيقي بين المتخصصين، وإلاّ فلماذا قامت الحكومة بتأخير رفع أسعار المحروقات قبل أيام؟!
أبرز ما تعمّق فيه العيسة، ويشكل موضع نقاش حقيقي، وهو ما التقطه الصديق د. إبراهيم سيف في مداخلته المذكورة، أنّ التحول في دور الدولة الاقتصادي منذ عام 1989، وبصورة خاصة مع التسارع الأخير في الالتزام بالبرنامج لم يرافقه إعادة تدشين عقد اجتماعي- سياسي جديد يعكس هذا التحول من مفهوم الدولة الرعوية (العلاقة الزبونية) إلى مفهوم دولة القطاع الخاص، ما يعني هذا من حصول تغير كبير في العلاقة بين الدولة والمجتمع، وإن لم يكن هذا التحول قد استكمل كافة ملامحه فهو ماضٍ في هذا الاتجاه.
إذا كان هنالك مشكلة لدى د. الفانك مع قصة العقد الاجتماعي- السياسي فلماذا لا يناقشها بصورة خاصة، ومحددة دون التورط في مصادرة التقرير ومضمونه والاستخفاف الكبير به وبكاتبه.
الفانك ليس بحاجة إلى فذلكة لغوية غريبة! حين يقول "وكأن أميركا نجحت في القضاء على مشكلة الفقر والبطالة" فالدكتور سفيان "الفلسطيني" لم يدافع في تقريره عن الاقتصاد الأميركي ولم يناقشه، ولم يدّع ما قاله الفانك، وإن كنت لا أتصور أن د. الفانك يقارن حالة الاقتصاد الأردني بالاقتصاد الأميركي!