عبثا أن تحاول أن تجري حوارا حضاريا مع من يرى العالم كثنائيات، فالأمر أما ابيض أو أسود، وهنا تختفي المنطقة الرمادية التي يمكن أن تكون أساسا لتحقيق توافقات، والطامة عندما يقدم هذا النمط من الناس خطابا اقصائيا يخوّن الآخر ويرى هذا النمط من المثقفين أن موقفه هو الموقف الذي لا يأتيه الباطل! فالأصل أن نحترم حق كل منا بأن يكون له رأي مختلف، فالوصاية مرفوضة والأبوية وصفة أكل عليها الدهر وشرب والتخوين ما هو إلا خطاب المفلسين الذين يثبتون يوما بعد يوم عجزهم على فهم التغيرات التسونامية التي هبت على المنطقة ومآلاتها.
عندما هب الشعب التونسي كان الشارع العربي من المحيط إلى الخليج مع حق الشعب في التغيير بعد أن حكم بن علي بالنار والحديد لأكثر من عقدين، وعندما بدأ الحراك المليوني في مصر أيضا كان موقف الشارع العربي مع الشعب المصري، والأمر ينطبق على الحراك الليبي واليمني والسوري. بمعنى أن هناك مسطرة واحدة نقيس بها الأمور، فنحن مع الشارع أينما كان! ووقوفنا مع الشارع لا يضعنا بخندق الأميركان أو الصهاينة كما ذهب إلى ذلك أحد المدافعين عن الأنظمة القمعية.
رصد موقف المثقفين العرب حيال الربيع العربي أمر سهل، فالمثقف المستقل يقف مع الشارع ولا يمكن له أن يقف ضد الشعوب في حقها في تقرير المصير، فالعالم ومنذ خطاب ويلسون الشهير استبطن فكرة حق تقرير المصير وبالتالي نجحت تقريبا كل حركات التحرر الوطني في العالم الثالث في تحقيق الاستقلال باستثناء الفلسطينيين لأسباب معروفة.
وهناك نوع من المثقفين والناشطين له مواقف متناقضة، فمثلا نجده يصطف بجانب المتظاهرين في الأردن في مطالبهم الاصلاحية ويقف في الوقت ذاته مع النظام السوري في قمع الانتفاضة السورية، فكيف يستقيم الأمر، وأي مسطرة مشوّهة تستعمل عند هذا النمط من البشر؟! في لقاء تلفزيوني، استبسل احدهم في الدفاع عن النظام السوري نافيا قيام النظام بقتل ولو مجرد سوري واحد ولا حتى بالخطأ! فمقتل أكثر من ألفي سوري هو بسبب مندسين وغير ذلك من الخطاب الذي لا يقنعني والكثير من أمثالي الذين نستخدم نفس المسطرة لقياس الأمور. وقدّم ذاك المدافع عن النظام السوري الأمر برمته كمؤامرة أميركية صهيونية على النظام السوري «المقاوم» وبالتالي فإن كل من ينتقد النظام السوري إنما يكرر كالببغاء المقولات الأميركية والصهيونية! أهناك تدليس أكثر من هذا؟!
ما من شك أننا ندخل عقدا جديدا لم يعد للبروباغندا مكان، فبعد الثورة الهائلة في الاتصالات والمعلومات لم يعد بالامكان تجميل الوجه القبيح لأي نظام قمعي، فبإمكان المواطن التحقق من حقيقة ما يجري في أي بلد حتى لو حاول نظام تلك البلد التضليل والتمويه. ونقول للمدافع الشرس عن النظام السوري أننا قرأنا جيدا رواية جورج أورويل بعنوان «مزرعة الحيوان» وأننا نحترم حق الشعب السوري في تحقيق مصيره بعيدا عن مواقف الدول الغربية والصهيونية، كما أن الذي يقف مع الشعب السوري أو الشعب الليبي في حقه في الحرية لا يعني أنه يقف مع الصهاينة، فخطاب التخوين لم يعد مجديا، أفيقوا عافاكم الله!
hbarari@gmail.com
الرأي