حــــروف مجنـــحة : فـي ظـلال الهـجـــرة
بلال حسن التل
27-01-2007 02:00 AM
تكمن القيمة الحقيقية لاحياء الذكريات والمناسبات من قبل الافراد والجماعات والأمم في مدى الاستفادة واستخلاص العبرة من الذكرى أو المناسبة أو الحدث. واذا كان استخلاص العبرة هو هدف احياء الذكرى فإن الأمر في ذكريات المسلمين مع رسولهم يدخل في باب العبادة. لأن التأسي بسيرته عليه السلام شرط من شروط الاسلام. لقوله عليه السلام: «من رغب عن سنتي فليس مني». والسنة النبوية كما هي معرَّفة فقها هي ما ثبت عن رسول الله عليه السلام من قول أو فعل أو اقرار.وهذه حقيقة يجب ان لا تغيب عن بالنا ونحن في ذكرى هجرته عليه السلام. وأول ما يجب ان نلتفت إليه ان الهجرة تكاد تكون ثابتا من ثوابت النبوة والانبياء. ففي البدء كانت هجرة نوح عليه السلام في السفينة التي أنجاه الله سبحانه وتعالى فيها من الطوفان الذي دمر من عصاه. وبعد نوح نستذكر هجرة أبي الأنبياء خليل الرحمن ابراهيم ثم هجرة موسى فراراً من فرعون وقومه. ولن تغيب عن بالنا هجرة عيسى عليه السلام والتي يسميها البعض برحلة الاسرة المقدسة. وصولاً الى محمد بن عبدالله عليه افضل الصلاة والسلام. وكأنما الهجرة شرط من الشروط الأساسية في كثير من الاحيان للتغيير ولقيام المجتمعات المؤمنة وبناء دولة الفكرة. مثلما ان الهجرة في وجه من وجوهها امتحان للايمان ودرس في التجرد والتضحية بالمال والأهل والغالي والنفيس. وهذه هي أهم عوامل التقاعس التي تثبط همة الانسان عن السعي لتحقيق الأهداف العظيمة. وهل أعظم من تبليغ رسالة الله هدفا يتجرد له الرسل من كل عوامل التثبيط وأسباب التقاعس. وهذا التجرد ليس مقصورا على رسل الله وخاتمهم محمد عليه السلام ولكنه يمتد الى اتباع الرسل وأولهم اتباع محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم لذلك خرج هؤلاء الاتباع الى الحبشة أولا ثم سبقوا رسولهم الى يثرب فيما بعد مضحين بالمال والوالد والولد.
اذن فإن التجرد والتضحية بالمال وبالوالد والولد في سبيل المبدأ والهدف الكبير هو أول درس نستلهمه من الهجرة النبوية الشريفة. وهي تضحية اخذت اكثر من صورة وشكل. وشاركت فيها كل الاجيال وكل الفئات. وقد تجسد ذلك أوضح ما تجسد في ليلة الهجرة وما تلاها علاوة على ما سبقها من هجرة المسلمين الذين ضحوا بكل شيء فداء لما أمنوا به. ففي ليلة الهجرة شارك الشباب ممثلين بالامام علي بن ابي طالب عليه رضوان الله الذي جسد اروع صور الفداء والتضحية. عندما نام في فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يعلم حجم الخطر الذي يتهدده من قريش التي كانت تحيط ببيت رسول الله عليه السلام للفتك به وهو نائم في فراشه الذي حل فيه علي بن ابي طالب كرم الله وجهه. وفي ليلة الهجرة وما تلاها شاركت المرأة ممثلة بأم المؤمنين عائشة واختها اسماء عليهما رضوان الله سواء في تكتمهما على خبر رسول الله عليه السلام وخبر ابيهما أو في مواصلة امدادهما واخيهما عبد الرحمن لرسول الله بالاخبار والمؤن وهو في الغار قبل ان يواصل هجرته الى يثرب. أما أبو بكر فإنه مثل ليلة الهجرة من بين ما مثل قطاع الكهول ودورهم في التضحية والفداء. وهكذا شاركت جميع الفئات والاعمار في رسم واحد من أعظم مشاهد الفداء والتضحية والتجرد التي عرفتها البشرية.
ومثلما ان التضحية والفداء والتجرد درس من الدروس التي نتعلمها من هجرة رسول الله عليه السلام فإن الدرس الثاني الذي يجب ان نتعلمه من هذا الحدث التاريخي هو اهمية توظيف كل الامكانيات والفئات لخدمة الهدف الذي نسعى إليه. وهو ما تحقق في ليلة الهجرة من تسخير كل امكانيات الشيوخ والشباب والنساء والاصدقاء. وقد سبق هذا التوظيف للامكانيات والفئات الاعداد والعمل المتواصل المصحوب بالتوكل. سواء كان هذا الاعداد بالاتصال مع الوفود والقبائل التي كانت تزور مكة للطواف بالبيت بهدف عرض الدعوة عليها حتى تمت البيعة من الأوس والخزرج وما تلا ذلك من ايفاد مصعب بن عمير عليه رضوان الله الى المدينة لتفقيه الناس ونشر الاسلام بينهم. ثم تتابعت هجرة المسلمين وصولا الى هجرته عليه السلام وما سبقها من تأمين الراحلتين والدليل العارف بطرق الصحراء وتغيير اتجاه الرحلة عبر طريق غير مألوف في السفر من مكة الى المدينة الى قيام الراعي بإخفاء اثر الراحلتين. وصولاً الى بلوغ المهاجر العظيم الى مأمنه. وهو الوصول الذي لم يوقف حالة الاعداد والاستعداد عند رسول الله والمؤمنين بل لعل استقراره عليه السلام في يثرب زاد من وتيرة الاعداد والاستعداد لديه ولدى المؤمنين. فتحولت يثرب الى خلية نحل ونشاط متواصل وظل تحرير قبلته عليه السلام شغله الشاغل حتى تم له ذلك بدخوله في السنة الثامنة للهجرة مكة فاتحا منتصراً. وقد كان هذا الفتح عنصر تحفيز لمزيد من الاعداد والاستعداد لتبليغ الدعوة لسائر جزيرة العرب وخارج الجزيرة.
خلاصة القول ان الهجرة النبوية وما سبقها وما تلاها تعلمنا ان مواصلة الاعداد والاستعداد شرط من شروط تحقيق الأهداف العظيمة والسير على نهج نبينا عليه افضل الصلاة والسلام.
واذا كنا نتعلم من الهجرة النبوية دروساً في الاعداد والاستعداد وفي الاصرار والمثابرة. فإنه يجب ان لا يفوتنا ان نتعلم درسا في الكتمان والسرية اللذين تحلى بهما رسول الله حتى لقد اخفى عليه السلام موعد هجرته عن اقرب المقربين إليه. وقد علمتنا دروس التاريخ ان عدم الاخذ بهذا المبدأ واستبداله سلوك الثرثرة ادى في كثير من الاحيان الى فشل جهود عظيمة. وعليه فإن من واجب العاملين لدعوة الله الاخذ بالاسباب وأولها الحيطة والحذر والكتمان والسرية. خاصة في زمن كثر فيه الاعداء وتزايد فيه المتربصون.
ومثلما نتعلم من الهجرة دروساً في الحيطة والحذر والكتمان فيجب ان نتعلم منها درسا في تقدير الخبرة والكفاية. وقد تجسد ذلك في حسن اختيار رسول الله عليه الصلاة والسلام للدليل الذي سيقوده من مكة الى يثرب. عندما اختار دليلاً خبيراً عليما بالصحراء وطرقها وفي هذا الاختيار يؤشر عليه السلام الى ان الكفاية مقدمة على ما سواها من شروط. وهو شرط لو أخذنا به لتغيرت الكثير من حقائق واقعنا عندما قدمنا الولاء على الكفاية والمحسوبية على القدرة. ونحن بذلك فوق اننا نخالف نواميس النجاح فإننا نخالف سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام.
دروس الهجرة النبوية كثيرة ومتجددة ولكن ونحن نعيش في هذه الفترة العصيبة من تاريخ البشرية لابد لنا من ان نشير الى أول حقيقة من الحقائق التي نتجت عن هجرة رسول الله عليه الصلاة والسلام اعني بها قيام الدولة الاسلامية. فتلك الدولة لم تكن دولة دينية «ثيوقراطية» بمصطلحات العصر وبمقاييس الدولة الدينية. بل كانت دولة مدنية قائمة على مفهوم المواطنة وعلى اساس التعددية. فقد كفل عليه الصلاة والسلام لكل اتباع دين من الاديان التي كانت في يثرب حريتهم الدينية. مثلما كفل لكل قوم من الاقوام خصوصيتهم في ظل الدولة المسلمة. وهذه حقيقة يجب ان نفاخر بها الدنيا. خاصة في هذا الزمن الذي تشن فيه الحروب على أسس دينية وعرقية وطائفية ومذهبية. وكل ذلك يشكل خروجا على سيرة صاحب الهجرة التي نحتفل بها هذه الايام على صاحبها افضل الصلاة وأتم التسليم.