علينا, بالطبع, أن نحيي الرئيس معروف البخيت, على صولته الاجتماعية الأولى في "معركة" تأجيل زيادة أسعار المشتقات النفطية. وهي صولة انتظرناها حتى الضجر واليأس من رئيس حصل على دعم شعبي غير مسبوق منذ سنين, بدّده بالتباطؤ والتردد والتنازلات لمراكز القوى.وسوف نحيي الرئيس, ثانيا, على تصريحه الصحيح القائل إن " التعاطي مع لغة الأرقام وحساباتها لا يتم إلا من خلال نظرة شمولية". ففي هذا التصريح تلخيص بليغ للنقد الاجتماعي للمعايير الاقتصادية التي تتبناها الليبرالية الجديدة المتوحشة التي تغض النظر عن الأبعاد الوطنية والاجتماعية والثقافية والإنسانية للسياسات العامة.
إلى ذلك, فإن تظهير العمق الاجتماعي - السياسي للخلاف داخل مطبخ القرار, يبعث الحيوية في الحياة السياسية الأردنية التي يمكن, في رأيي, تأطيرها في تيارين: التيار الوطني الاجتماعي ويشمل بيروقراطية الدولة والفئات الوسطى واليسار والاتجاه القومي, والتيار الليبرالي الجديد الكمبرادوري, المتحالف, موضوعيا, مع الاتجاه الإسلامي.
على أن هذه البارقة, ستظل, إلى وقت ليس قصيرا, إشارة لا محركاً. فإنقاذ الطبقة الوسطى الأردنية, لا يتم بمجرد تأجيل زيادة جديدة في أسعار المحروقات لمدة أربعة أشهر. ولا يمكننا, في هذه الحالة, أن نغض النظر عن الدوافع الأمنية المشروعة وراء قرار كان سوف يصب الزيت على نار التوتر الشعبي . كما لا يمكننا أن نرى في تأجيل ذلك القرار, سوى محاولة تقع في سياق تكتيكات ربع الساعة الأخير لحكومةٍ جرى استنزاف صدقيتها حتى الثمالة بقائمة طويلة من التنازلات والأخطاء.
من دون طرح بديل اجتماعي سياسي شمولي حقا, ستظل" لغة الأرقام " الليبرالية الجديدة, أقوى من خطاب مضاد لا يستخدم اللغة نفسها: اننا نواجه, اليوم, مشكلة عجز جدية في فاتورة الطاقة, لا تؤثر, فقط, على الموازنة العامة, ولكن على مجمل الاقتصاد الوطني وفعالية المناورة الاجتماعية للأغلبية الشعبية. فلا بد, إذاً, من حل جذري هو العدالة في تحميل الأعباء حسب الطبقة والاستهلاك, طالما أن العدالة في توزيع الثروة والمكتسبات غائبة وغير مطروحة.
وكنا قد قدمنا اقتراحا ملموسا لتوزيع أعباء فاتورة الطاقة, انطلاقا من تسعير ثابت يراعي الاحتياجات التنموية والاجتماعية, على أن يتم تمويل العجز بوساطة الضريبة التصاعدية على الطاقة, تُحصل, سنويا, على كل سي سي إضافي لمحركات السيارات فوق 1300 سي سي, وكل متر مربع إضافي من المساكن التي تزيد مساحتها عن 150 مترا, والمكاتب التي تزيد مساحتها عن 75 مترا .وتحقق الضريبة التصاعدية على الطاقة, فائدتين: تخفيض الاستهلاك, ومراعاة الأبعاد الاجتماعية في الوقت نفسه.
وهذا اقتراح ينطلق من "النظرة الشمولية" التي تحدث عنها البخيت. وقد تكون هناك اقتراحات أخرى. لكن المهم التعاطي مع الحلول الاجتماعية الجذرية, بدلا من تأجيل الحلول الليبرالية بضعة أشهر. وتستطيع حكومة البخيت, الآن, أن تبلور هكذا حل, وتصدره في قانون مؤقت, سوف يحصل على تأييد أغلبية المواطنين والقوى الشعبية, ويؤسس لمرحلة من الاستقرار الاجتماعي الضروري للتقدم الأردني.
نعم . لا بديل عن "النظرة الشمولية", ولا مستقبل للاقتصاد الوطني والمجتمع الأردني والثقافة والهوية الأردنية, من دون إنقاذ الطبقة الوسطى. وهذا يعني خوض المعارك السياسية على أساس اجتماعي وطني ديمقراطي, لا على أساس أمني, كما حدث في الانتخابات البلدية. وهنا ربما تكون قوى الدولة هي التي في الجانب الصحيح من الصراع, وأكثر قدرة على خوضه, بدلا من خسارة المعركة الأهم, معركة الصدقية, وبدلا من افتعال مواجهة مع قوة شعبية, تؤدي إلى خسارة تعيينات مجلس أمانة عمان لصالح قوى البزنس.
و"النظرة الشمولية" لا تقبل بالتقرير الحكومي الذي يطوي ملف " أمنية" من دون التوقف عند معناه الأساسي. فليس المهم, في هذا الملف, أن يكون بريئا من التقصير أو الفساد, بل أن الطامة, عندها, تكون أعظم ! ذلك أن القضية, في هذه الحالة, تصبح شديدة الدلالة على مضمون الأزمة الأردنية الحاضرة. فمن دون تقصير ولا فساد, وبإجراءات سليمة مئة بالمئة, يستطيع " مستثمر" أن يحقق في السوق الأردنية, أرباحا تصل إلى 500 بالمئة, في سنة واحدة, قبل أن يغادر الديار. وهذا النوع من" الاستثمارات", في أشد صوره قانونيةً ونزاهة, يعادل نهب الثروة الوطنية والإمكانات الاقتصادية المتاحة للبلاد. ونسبة الأرباح أعلاه, لا تقتصر على " أمنية", بل تتعداها إلى " استثمارات" عديدة معروفة.
ومع نسب أرباح كهذه يتساءل المرء: لماذا لا يكون للحكومة المركزية ذراع استثماري متخصص بالفرص الخيالية تلك, فلا تعود الخزينة بحاجة إلى المساعدات أو القرارات الصعبة لمعالجة العجز, مثلما يمكنها تسديد المديونية العامة في بضع سنوات!!
استرسلنا لتوضيح الأزمة, وعناصرها, واتجاهات حلها. لكننا نعلم أن صولة الرئيس الاجتماعية, ليست سوى إجراء سياسي قد يعيش حتى نهاية العام.
العرب اليوم