إبراهيم سكجها .. سادن الصحافة الأردنية
28-07-2011 06:02 AM
عمون - يصادف الخميس مرور عشرين عاماً على رحيل شيخ الصحافة الأردنية الأستاذ ابراهيم سكجها الذي ما زال الزملاء يحتفظون منه بمهنيته العالية وخلقه العظيم وعفة يده ولسانه.
الزميل الاستاذ هزاع البراري كان استعرض حياة الراحل في دراسة تعيد عمون نشرها وهي تقرأ الفاتحة على روحه الطاهرة.
كتب : هزاع البراري - لم ينشأ في قلعة الصحافة وحسب، بل يعد أبرز رجالات جيل التأسيس فيها، فهو من أؤلئك النابتين من وجع الأرض ومعاناة الناس، والمكتفين بالقليل في سبيل المبدأ والمنافحة عن القضايا المصيرية، والعمل من أجل أمة عربية موحدة، قادرة على استعادة دورها على رأس هرم الحضارة الإنسانية الحديثة، وهو المبدأ الذي كرس له جهده وقلمه طوال ما يقرب من نصف قرن من الزمان، ولم يخالجه الشك بجدارة أمته بالخروج من مأزق التشرذم والانقسام، لما تمتلكه من مقومات النهضة الشاملة، وقد قاده إيمانه هذا إلى مكابدة مشاق ومصاعب كبيرة، والترحال بين مدن ودول، دون أن يغادر مهنة الصحافة، التي تعد مهنة المتاعب والقلق، حيث سحرته الكلمة الحرة والمسؤولة، فلم يغره لمعان الذهب، مخالفاً مهنة الصياغة التي ارتبطت بعائلته حتى يومنا هذا.
لقد انعكس امتداد البحر، الذي تفتحت عليه عينيه ، على سقوطه في عشق الكتابة على الصفحات البيضاء، فلقد ولد على مقربة من شاطئ البحر الأبيض المتوسط، ومن خلفه بيارات البرتقال والليمون، فهو أبن عروس البحر مدينة يافا، الغاصة بالحركة والنشاط، فكان ميناء هذه المدينة الساحرة، عامراً بالحركة والمخاوف، بسبب تدفق الصهاينة الغرباء، ولعل ولادة إبراهيم سكجها عام 1926، وقد توضحت معالم المؤامرة الغربية على فلسطين، فمن خلال طفولته في يافا، شهد بعينه التغيرات التي بدأت تأخذ المنطقة برمتها، إلى دوامة لا يعرف عقباها، وكان شاهداً خلال التحاقه في المدرسة الابتدائية بيافا، على المقاومة الفلسطينية ضد الإنجليز واليهود، ومع بدء تفتح وعيه اتجاه ما يدور حوله، فجع بوفاة والده وهو طالب في مدرسته، بعمر لا يتجاوز الرابعة عشرة، وقد وجد نفسه فجأة في مواجهة حياة صعبة وظروف قاسية.
أضطر إبراهيم سكجها، وهو في هذه العمر المبكرة للبحث عن عمل، يعيل من خلاله عائلته، التي تركت في مواجهة متطلبات العيش اليومية، وتميز بحبه اللافت للدراسة، لذا رغم ظروف عمله بقي ملتزماً بالدراسة في مدرسة العامرية التجارية في يافا، وقد كان لهذه المرحلة من حياته بصماتها الواضحة، على سنوات عمره اللاحقة، فتعلم الاعتماد على النفس، وتحمل المشاق، وعدم الاعتراف بالفشل أو الاستسلام لنتائجه، فكان عصامياً متوقداً بالحماسة والنشاط، وتحدى الواقع الذي أثقل كاهله بأعباء العيش، أن حافظ على تفوقه في الدراسة، حتى أنهى دراسته الثانوية، لتفتح آفاقه نحو الحياة العملية المنتجة، فسرعان ما أصبح إبراهيم سكجها موظفاً في بلدية مدينة يافا، وقد وفرت له هذه الوظيفة بعض الاستقرار المالي، وجعلته على اطلاع واسع بما يحدث حوله من حراك سياسي واستيطاني وعسكري، وأن يكتنز كل ذلك في أعماقه، مفجراً موهبته في الكتابة الصحفية والأدبية.
بدأ إبراهيم سكجها كتابة المقالة الصحفية باكراً، وعمل على نشرها تحت اسم « العدناني الصغير « واختار هذا الاسم معبراً عن إعجابه بالشاعر محمد العدناني، وقد قام بنشر مقالاته في جريدة « فلسطين « حيث لاقت كتاباته هذه رواجاً كبيراً بين القراء، ولفتت الانتباه إلى موهبته في الكتابة الصحفية المتميزة، وقد دفعت هذه المقالات الصحفي الكبير داود العيسى، لاكتشاف شخصية هذا الصحفي المبشر بمستقبل متميز، وقد ظهرت موهبته في تحرير الأخبار، وصياغة العناوين المعبرة بلغة مختزلة، وقد مكنته هذه الميزة من أن يصبح من مجرد صحفي عادي، إلى سكرتير تحرير لجريدة فلسطين عام 1946، ويعد هذا العام التأريخ الحقيقي لامتهانه مهنة الصحافة، التي أخلص لها منذ ذلك الحين، ولم يقبل أن يعمل في مجال آخر، مهما كانت المغريات أو تبدلت الظروف وتقلبت عليه.
توجس إبراهيم سكجها من اشتداد وتيرة الأحداث في فلسطين، قبيل نكبة عام 1948، وكان لأثر هذه المرحلة آثارها النفسية والفكرية في نفسه، وتوجهاته القومية الثابتة، وقد أجبره سقوط مدينته يافا، في يد الصهاينة إلى الخروج منها باتجاه قطاع غزة، وقد مكث فيها فترة من الزمن، مع عدد كبير من النازحين الفلسطينيين، ولا شك أن الأحداث الجسام ملأت صدره بالغضب، فأمن أن الصحافة في جبهة حقيقية للدفاع عن قضية العرب الأولى فلسطين، فتوجه إلى مدينة القاهرة، حيث انخرط في صحافتها عاملاً وكاتباً، وقد أتاحت هذه العاصمة العربية الكبيرة والناشطة، التعرف على كبار رجال الصحافة المصريين والعرب، فيتمكن من بناء خبرته العملية وفي الصحافة، مستفيداً من الخبرة المتوفرة في القاهرة، وقد عمل أيضاً خلال هذه الفترة في جريدة الدفاع واسعة الانتشار في الأردن وفلسطين.
عاد الصحفي إبراهيم سكجها إلى عمان عام 1950، وباشر العمل في الصحافة المحلية، وكانت سمعته وحرفيته قد سبقته، وهو الذي لم ينقطع عن الكتابة في الجرائد المحلية، ونظراً لما تمتع به من خبرة وموهبة، فقد تم تعيينه سكرتير تحرير لجريدتين في الوقت نفسه، حيث عمل سكرتير تحرير لجريدة « النسر « لمؤسسها صبحي القطب، وجريدة الجزيرة لصاحبها تيسير ظبيان، وهنا برزت حرفيته الصحفية، عندما عمل على تحويل جريدة الجزيرة إلى مسائية، ليتمكن من النهوض بمسؤولياته بما تقضيه أساسيات المهنة، وذلك قدم نموذجاً فريداً في الصحافة الأردنية، وفي أواخر عام 1950 أصدر جريدة « آخر خبر « الأسبوعية وترأس تحريرها، وقد وسع أفق وسقف حرية جريدته، بما اعتبر سابقاً على مرحلته، ونظراً لما حملته الجريدة من جرأة في التناول والتحليل، فقد تم إغلاقها، فانتقل على إثر ذلك إلى مدينة القدس، وقد طاب له المقام في بيت المقدس، حيث واصل عمله في الصحافة، من خلال عمله سكرتير تحرير لجريدة فلسطين، وبقي محافظاً على منصبه هذا حتى تم دمج جريدتي المنار وفلسطين، لتولد نتيجة ذلك جريدة الدستور الأردنية.
انتقل سكجها إلى عمان من جديد، لتعيينه مديراً للتحرير في جريدة الدستور، التي بقي مديراً للتحرير فيها حتى عام 1975، وقد نقل عائلته من القدس قبل نكسة عام 1967 بيومين فقط، فشكل ضياع القدس ضربة موجعة للأمة بأسرها، لإبراهيم سكجها الذي أمضى ستة عشر عاماً مقيماً فيها، ووفرت له المناخ المناسب، والصداقات المتينة، التي مهدت له السبيل للانتساب إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، حيث عرف سكجها بمواقفه القومية، المنحازة لقضايا العرب، والداعية إلى وحدتهم في مواجهة مخلفات الحقبة الاستعمارية، وما يتعرض له العرب من مخططات تهدف إلى النيل من استقلال بلدانهم، والسيطرة على خيارتها، ولم يغير من نهجه هذا طوال حياته، فأفخلص لمبادئه ووطنه، وظل وفياً لأصدقائه ومهنته حتى لحظاته الأخيرة.
بعد عمله في الدستور، عمل على إصدار جريدة « الشعب « وترأس تحريرها، ومن خلال عمله في هذه الجريدة، قدم للساحة الصحفية تجربة فريدة ومختلفة في الصحف المستقلة، وانتهج سياسة منفتحة، لا سقف للحرية فيها، غير المسؤولية الصحفية، لكن هذه التجربة لم تدم طويلاً، فخلال مرحلة غياب الديمقراطية، فأغلقت الجريدة، نتيجة عدم تقيدها بقوانين النشر حينها، بعد ذلك سافر مع عدد من أصدقائه إلى دولة الإمارات العربية عام 1978، حيث عملوا على تأسيس جريدة البيان، وأصبح رئيساً لتحريرها، فحققت هذه الجريدة انتشاراً واسعاً في الإمارات وخارجها.
عاد إبراهيم سكجها إلى عمان من جديد، بعد عامين من تأسيس جريدة البيان، ومن ثم أصبح رئيس تحرير جريدة صوت الشعب، ليعود بعد ذلك إلى جريدة الدستور رئيساً للتحرير، وقد شكل عام 1988 نهاية عمله في منصب رئيس تحرير.
انتخب نقيباً للصحفيين لثلاث دورات متتالية، ومثل الصحافة الأردنية خير تمثيل، في المؤتمرات والملتقيات العربية والدولية، ولم يكن جديداً على العمل النقابي، فقد كان عضواً منتخباً في أول مجلس لنقابة الصحفيين الأردنيين عام 1953، وقد أصدر عام 1982 مجموعة قصصية بعنوان « صور مبتداها في يافا « وبقي لسنوات طويلة يكتب مقالته في زاويته المسماة « بسرعة « والتي انتقلت معه من جريدة إلى أخرى، وقد نال وسام القدس للإبداع عام 1990 من منظمة التحرير الفلسطينية، واستمر قابضاً على جمر الكتابة حتى رحيله عنا في الثامن والعشرين من شهر تموز عام 1991، مخلفاً إرثاً صحفياً متجدداً من خلال أجيال من الصحفيين الذين تتلمذوا على يديه.
الرأي/ هزاع البراري