ثمة أزمة حقيقية اليوم في "نخبة الدولة"، تظهر بوضوح عند أي حديث عن تغيير حكومي أو تعديل وزاري أو حتى منصب مهم تتولاه شخصية قيادية مؤثرة، إذ تبدو التخمينات أو الحسابات وقد تحدّدت بصورة كبيرة، وفي إطار محدود جداً، لا يتجاوز عدد أصابع اليدين، في دولة يبلغ عدد سكانها قرابة 6 ملايين!
نحن في لحظة يمكن أن نصفها بـ"جفاف نخبة الدولة" بامتياز، وهي حالة غير تقليدية في الأردن، إذ طالما كانت الدولة قادرة على تجديد نخبها، وانتخاب نخب جديدة وتصعيدها، وإعادة إنتاج دور نخب وتدويرها من "الحاضنة البيروقراطية" أو حتى "الأحزاب المعارضة"، أو النقابات المهنية، أو وزارة مثل وزارة التربية والتعليم التي شكلت في مرحلة معينة مصنعاً مهماً للنخب السياسية، فضلاً عن الجامعات والنشاطات التي تدور فيها والمجموعات الفاعلة في استقطاب وتجنيد المهتمين بالعمل السياسي.
بالضرورة كانت هنالك نخب معينة تداور على المواقع المهمة، ولها حضورها، لكن الدولة كانت قادرة على استبدالها بأي لحظة. وكانت هذه النخب تقوم بأدوار وظيفية تتناسب مع طبيعة اللحظة التاريخية، كما الحال في الصراع التقليدي بين المدرستين: الرفاعية والمضرية (في مراحل معينة).
اتفقنا أم اختلفنا مع أغلب هذه النخب، فإنّها كانت تمثل مقاربات مهمة في إدارة الدولة واتجاهاتها، وفي نهاية المطاف تعكس قدرة النظام على إنتاج نخب تتحدث باسمه وإعادة تجديدها.
أما اليوم، فإن أغلب المعامل والحواضن تعطّلت، تحت وطأة "تأميم العمل السياسي"، ولم تعد الماكنة الرسمية قادرة على تجديد نخب الدولة أو إعادة تدويرها واستقطاب القيادات السياسية، بل ما يحدث هو العكس تماماً إذ تخسر الدولة حتى النخب التقليدية التي كانت محسوبة عليها، من دون القدرة على التجديد، فهنالك حالة من الطرد والإقصاء والتهميش، لا الجذب والاحتواء والتدوير.
ما هو أهم من ذلك أنّك لا تجد حالياً نخباً فاعلة مؤثرة قادرة على أن تقدّم مشروع الدولة وخطابها إلى الشارع، وهي مسألة لا تعكس فشل تسويق السياسات الرسمية، فحسب، كما يحلو للمسؤولين الكبار توصيفها، بل العجز عن بناء خطاب الدولة وصوغه بصورة محكمة عميقة تحمل إجابات على الراهن والمستقبل، فتبدو البوصلة تائهة تماماً، فيما السؤال الأكثر تردّداً على ألسنة الحاضرين: إلى أين نسير؟!
بالطبع، الحالة الأردنية مقارنة بالعواصف التي تطيح بالدول من حولنا، تبدو أفضل حالاً، لكن ليس كثيراً، إذ إنّ هنالك أزمة سياسية عميقة، على أكثر من مستوى، فيما نفتقد النخبة المفكرة القادرة على إنتاج الأفكار والجرأة في طرح البدائل داخل أروقة مؤسسات القرار.
ثمة روافد متعددة لتحليل أسباب العطب الذي أصاب الدولة، إلاّ أنّه في مقدمة ذلك تعطل عجلة الحياة العامة (تزوير الانتخابات، التدخل في الجامعات، تعطل ماكنة المدارس، الخلل في الأجهزة البيروقراطية، ضعف الأحزاب) وخضوعها للمنظور الأمني، فبتنا ندور في اختيار النخب بين "الحرس القديم"، الذي ما يزال متمسكاً بخطاب الدولة السابق، عموماً، أو النخب الاقتصادية التي تتعامل مع إدارة الدولة، كما الشركات، وفقدت مصداقيتها في الشارع، بينما لا نجد نخباً حيوية لديها القدرة على صوغ خطاب جديد وتسويقه، والدفاع عنه، كما كان يحدث تاريخياً.
بالتأكيد، فإنّ أهم مهمات الإصلاح السياسي هو تشغيل ماكنة إنتاج النخب وإنضاجها وتطوير قدراتها، وهو ما بدأت ثماره تظهر مع بروز قادة شباب جدد للحراك السياسي، يمكن أن يكونوا غداً نواباً وأحزاباً ووزراء.
m.aburumman@alghad.jo
الغد