اشرقت شمس الاحد ، قبل يومين ، وما زلت اتقلب في فراشي ، اهرب من موت يومي ، يستمر لساعات ، الى كل الغرف ، ابحث عنها ، اطرق البوابات الصغيرة في قلبي ، والكبيرة ايضا ، فإبنتي "ساجدة" ليست هنا ، ولن اوصلها الى المدرسة صبيحة الاحد.
عادت بي الذاكرة الى يومها الاول في المدرسة ، حين تورد وجهها كحديقة ، بعد ان قبلتها مديرتها انذاك في المدرسة ، والى تلك السنوات ، التي مضت ، كنت ادخل الى فصلها الدراسي ، اجدها متأملة في الدنيا ، وفي انتظاري ، لاعيدها الى البيت ، لم تكن ترسم على وجهها سوى ابتسامة ، ابتسامة الصبر الغريب ، صبر القانتات ، اضمها ، كما غيمة تعانق الشمس ، فيتبدد همي وغمي امام الضياء المنبعث من قلبها الصغير.
كل صباح ، اكاد استيقظ في السادسة والنصف ، لاوصلها الى مدرستها ، تتفتح عيناي ، فأتذكر انها ليست هنا ، واعود الى نومي غير آبه ، لا بيوم دراسي ولا بعام دراسي ، فقد تساوت الايام ، حتى قلمها الصغير الوردي ، سرقته من حقيبتها ، وما زال معي ، عقيقة حظ ، غير اني اسأل أي حظ هذا هو يبقى ، بعد ان تسرق الايام قلبك ، تودعه تحت التراب.
زرت مرقدها ، لاسألها.. هل تحبين ان تذهبي الى المدرسة ، فما وجدت الا فراشا جميلا فوق قبرها ، وقد كانت تعشق الفراش ، غير انني والله العظيم كدت اخذ معي حقيبتها المدرسية ، معي لاوقظها حتى لا يضيع عليها الباص ، او اوصلها بنفسي كما كانت تريد.
من يفقدون ابناءهم ، تمر كل التواقيت عليهم مرة صعبة قاسية ، تأتيك طيف من رحلت ، عند المدارس ، وفي صيام رمضان وفي الاعياد ، حتى اكاد امسك الهواء ، بحثا عنها ، تأسرني ضحكتها المدوية التي كنت تكسر بها مرضها وتهز ارجاء المنزل وكأنها ضحكات لعشرة اطفال معا ، وما زالت ترن في وجداني تلك الضحكات ، ايه.. يا ساجدة ، سرقك التراب مني ، بصمته وسكوته ، فأعود من عندها بحقيبة وبضع ذكريات.
لا افهم ما يقال عن الصبر والسلوان ، وافهم ما يقال ان لابنتك ربا ، هو صاحبها وربها ، استردها متى شاء ، لا انازعه ملكا ، ولا اقدر على هذا ، غير ان كل الكلمات ، تسألني عنها ، كل الوجوه ، كل المدارس ، اطرق بواباتها ، بحثا عنها ، فقد تكون قد تسجلت في مدرسة اخرى ، لا اعرفها ، حتى كأن عمري قد صار عبئا ثقيلا علي ، حين تداهم الايام الطفولة ويسرق المرض الممتد عبر احد عشر عاما ، يسرق قلبك ، ويزرع مكانه الفراغ.
مثل هذه الايام ، كنت انا وساجدة وحقيبتها ، على باب مدرستها ، وفي المكتبة القريبة ، لا.. اترك قرطاسية ولا قلما ملونا ، الا وكنت اشتريه لها ، حتى الطير المغرد والحمام البري الذي كانت "ساجدة" تجمعه في حديقة المنزل بنثرها لحبوب القمح كل صباح ، ما زال يأتي ، وما زلت انثر القمح باسمها كل صباح قبل الخروج ، فيعود الحمام البري بهديله كل فجر ، يئن قلبي من صوته ، وكأنه يسألني عنها ، فلا اجيب الا بموتي كل ليلة لساعات ، نسميها نوما واراحة.
رحلت "ساجدة" وتركتني في اليوم الاول للمدرسة وحيدا ، حقيبتها معي واقلامها ، وزينة شعرها الذهبي ، اقف عند كل بوابات المدارس ابحث عنها فلا اجدها ، فأعود من حيث جئت ، وكل الحبر لا يكفي لتلك الكلمات.
رحلت في يوم ممطر ، وما حييت صار عندي خوف من المطر ، وما زالت دقات المطر على نافذة قلبي ، تبكيني ، وما زلنا على باب شتاء جديد ، يأتيني ايضا ، ليذكرني بفرحها الشديد والمطر يتساقط على زجاج السيارة وهي عائدة من المدرسة ، حتى رحلت في يوم ممطر ، وتركتني عند بوابات المدارس ابحث عنها ، فلا تأتي ولا يأتي المطر.