ما حدث في السودان من تقسيم يبعث على الأسى على الصعيد النفسي. وليس هذا بالمهم كثيرا، ولكن مكمن الخطر في تبعات هذا التقسيم على الأمن الإقليمي لمصر والسودان، والمنطقة العربية بأسرها. فمن المؤكد أن "تل أبيب" ستكون طرفا رئيسيا في تأجيج الصراع على مياه النيل، وتضع القاهرة والخرطوم في مواقف حرجة لا تحسدان عليها في صراع المياه الذي يدور في العلن، خصوصا بعد أن قدم النظام الحاكم في الخرطوم جنوب السودان على طبق من ذهب للطامعين والطامحين لتفكيك دول المنطقة إلى "كنتونات" يسهل السيطرة عليها وجعلها أداة طيعة للمشروع الصهيو-أميركي في المنطقة.
فقد مارس النظام السوداني، ولسنوات طويلة، فكرة الإقصاء والتهميش، وساهم في تفكيك المفكك وتجزئة المجزأ، بحيث أعاد إنتاج المجتمع السوداني بشكل تجزيئي لتسهيل السيطرة عليه. ولكن هذا التفكيك ما لبث أن شهدنا نتائجه من انفصال للجنوب. وربما مسلسل الانفصال سيتواصل في ظل غياب المواطنة كمكون أساسي لحماية المجتمع وضمان تماسكه. وهذه الحالة ليست سودانية، فكثير من الأنظمة العربية تمارس سياسية التفكيك للمجتمع، والنتيجة الانقسام العمودي في المجتمعات، وظهور دول المدن من جديد!
وضمن تلك السياقات، كنت أبحث عن وجهة نظر شمال السودان في قضية الاستفتاء، فكانت الإجابة من خلال استطلاع للرأي العام أجراه الصديق الدكتور فارس بريزات، للتعرف على وجهة النظر حول انفصال جنوب السودان من دون أخذ رأي السودانيين في الشمال، وبهذا أبدى سكان الجنوب رأيهم وقرّروا الانفصال فيما غاب رأيُ أهل الشمال.
ولملء هذه الفجوة في المعرفة حول الرأي العام السوداني في الشمال في مرحلة ما بعد الاستفتاء، وبحسب دراسة آثار تصويت الجنوبيّين لصالح انفصال جنوب السودان عن شماله، ثمة أسئلة إشكالية جديدة حول هويّة السودان، في مجالٍ جغرافي-اقتصادي-اجتماعي وبشري زُرعت فيه الدولة أكثر ممّا كانت نتاجاً طبيعياً لتطوّره. ولعلّ أهمّ هذه الأسئلة هو السؤال المرتبط بعروبة السودان ووحدته، وما إذا كانت هناك حاجة لإعادة تعريف هويته، وإعادة النظر إليها في ضوء إخفاق تجربة السودان الموحّد.
ولم توفّق الحكومات السودانية منذ ذلك الوقت في بناء دولة حديثة تقوم وحدتها الأساسية على المواطنة التي يتساوى فيها الجميع، بغضّ النظر عن انتماءاتهم العرقيّة واللغوية والثقافية. كما لم تتمكّن هذه الحكومات من صوغ هويّة سودانية مركبة، تنظر فيها كلّ جماعة لهويّتها الخصوصية عبر محور الهويّة السودانية الجامعة. وبقيت نسب الفقر، ومعدّلات الإعالة العمرية والاقتصادية مرتفعةً بفعل ارتفاع معدّل النموّ السكّاني الذي قد يحتاج في ظروف السودان إلى تحقيق ثلاثة أمثال ما يحققه الناتج المحلّي الإجمالي حاليا.
المحصلة النهائية أن الأنظمة المتعاقبة في السودان تتحمل نتيجة ما حصل من انفصال، وهي لم تترك للسودانيين فرصة لإعادة تنظيم المجتمع وفق سياق يلغي التداخل الإثني والعرقي والديني، ويجعل من الوطن رمزاً للوحدة الوطنية، في إطار الهوية الوطنية الجامعة التي توحد الجميع من دون أن تلغي طرفا من أطراف معادلة وحدة الوطن!
الغد