خلال كل الشهور التي مضت، بكل ما كان فيها من مسيرات واعتصامات وإضرابات وتوقف عن العمل ومئات البيانات، لم نختلف على الحق السياسي والقانوني في التعبير، وكان منطقنا جميعا متوافقا سياسيا على احترام حرية التعبير، وكان هذا ميزة إيجابية لنا في الأردن بغض النظر عن مواقعنا في الحكومة أو مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب وعامة الناس. وحتى اليوم، ما يزال توافقنا جميعا، حكومة ومواطنين وقوى سياسية، على هذا الأمر إنجازا نعتز به. وما نزال نشهد مسيرات واعتصامات في مدن عديدة تتم بكل حرية، وهي أيضا حق ديمقراطي لا نختلف على مشروعيته.
وما دام ما تم أمر مارسناه وما نزال بكل مسؤولية، فإننا مطالبون بإكمال المشوار بذات الروح، وأن نتذكر أننا جميعا نعمل من أجل الأردن. فمن يخرج في مسيرة يخرج لأنه يريد الخير لبلده، ويطالب بما يعتقد أنه خير وصلاح للناس والدولة. ورجل الأمن أو المسؤول الحكومي يمارس ما يرى فيه الخير. وهناك مسار معلن ومحل توافق للإصلاح الدستوري والسياسي سيتم الانتهاء منه خلال أسابيع ويتحول إلى واقع ملموس.
وحتى لو كان البعض يعتقد أن هناك حاجة لمزيد من الحراك والاعتصامات للمطالبة بتسريع الخطوات أو لرفع الصوت في قضية سياسية أو مطلبية، فإنه لا جدال على الحق سياسيا، لأن هذا أمر لم نختلف عليه في بداية الأمر وأصبح من البديهيات، وليس من المعقول أن نبدأ اليوم من المربع الأول.
وحتى الخلاف على أمكنة الاعتصامات، فيفترض أننا نمتلك تصورا من منطلق المسؤولية الوطنية، فليس معقولا أن يكون التعبير لمصلحة البلد والناس لكنه يجلب الضرر لأي فئة أو مجموعة من تجار أو سكان أو للحياة الطبيعية. لأنه لا يجوز أن نجلب الضرر للدولة ونحن نعلن أننا نعتصم لمصلحتها، لأن الأمر ليس إحراجا للحكومة أو ضغوطا يمارسها أي طرف على أصحاب القرار، بل هو إحراج للدولة التي نحن جزء منها ونقول جميعا إننا نعمل لمصلحتها.
القاعدة الشرعية تقول إن درء المفاسد أولى من جلب المصالح. ولأن المصلحة الكبرى أن نبقى متوافقين وأن لا نفسد على أنفسنا ما كان من أمور ايجابية. ولأن ما يقال من شعارات يقال في أي مكان وليس بالضرورة أن يرافقه إغلاق أسواق أو مناطق حساسة أو إلحاق الضرر بالسياحة أو التجارة أو حق الناس في الأمان والحياة الطبيعية، لهذا كله فلا صوت يجب أن يرفع إلا صوت الحكمة والقانون الذي يحفظ حق التعبير، لكن من دون أثمان باهظة من اقتصاد الدولة وأرزاق شعبها، ولا يفتح علينا أبوابا من التوتر الأمني والسياسي، لأن هذا هو التجسيد الحقيقي لما نقول حول دوافعنا جميعا وهي مصلحة الدولة.
لدينا نموذج أردني إيجابي في التعبير عن كل القضايا، ولا ضرورة لاستنساخ أي نموذج من أي دولة. ولسنا بحاجة إلى ممارسات قائمة على الإثارة يكون ثمنها مصالح الناس والدولة، وأيضا إفشال حالة التوافق التي مارسناها جميعا بكل مسؤولية.
قد نجد اختلافا في بعض التصورات، لكننا لم نختلف على ضرورة الإصلاح والتطوير، ولا ضرورة أن نعود لمناقشة فكرة الحق في التعبير بسبب خلاف ليس على الجوهر بل على آليات. فكما أن الإصلاح ضرورة للدولة، فإن الحياة الطبيعية ومصالح أي فئة من الأردنيين، الاقتصادية والمعيشية وحالة الاستقرار العامة للدولة، أيضا ضرورة ومصلحة لا يجوز أن نختلف عليهما.
الغد