تمتص ذاكرته موسيقى الطائرة كنشيد وطني..يغلق هاتفه المشغول بالغربة والوظيفة، ينظر من النافذة البيضاوية، عربات نقل صغيرة تزحف تحت الطائرات، وعمال آسيويون يتحركون في مدرج المطار بسترهم الفسفورية. وداعاً لصيف الغربة، وداعاً للروتين اليومي الذي أكل رغيف أيامي.. يتلمّس جواز سفره في الجيبة الداخلية، يفتحه على ختم الخروج؛ ما أشهى حبر هذا التاريخ، بين صفحاته تسقط ورقة،يكتشف انه يحتفظ بـ»بوردنج «اجازة الصيف الماضي من باب الذكرى ليس الاّ،وقصاصة أخرى من تذكرة «ترانزيت» استخدمها قبل سنتين،يرجع جوازه إلى مكانه، ثم يعيد توجيه فتحة مكيّف الطائرة عمودياً على رأسه، المغتربون ما زالوا ينسلون..عائلة تختار المقاعد الجانبية وطفل يقفز وطناً وفرحاً، في المقعد (13F) أب اشتعل رأسه غربة وكفاحاً يضم جاكيته إلى صدره ويغفو متطهّراً من وحدته الطويلة الطويلة.. تفوح من مقاعد العائدين رائحة الشوق..وعرق اللهفة النازف من مسامات الحلم...ثلاثمائة يوم تختزل في ثلاث ساعات...ياااااه ما أطول الثلاث ساعات...
تحلّق طائرة الرجوع عالياً عالياً تغسل المغتربين من تعب العيش بسحب صيفية..تمشّط إرهاقهم وأصوات أطفالهم...تهزّ بهم الفضاء كسرير رضيع..ترفعهم تارة إلى سماء الأحلام حتى لا يروا شيئاً وتارة تقترب بهم من جدب الأرض حتى لا يروا شيئاً أيضا..
يسرح العائد من جديد بدبق الغربة..السيارة في مصف الشركة،لا بد أن «نوشاد» سيغسلها كل يومين، والثلاجة مفرغة من آخر وجبة جاهزة..فيها ماء فقط، والماء لا يفسد...التكييف مطفأ..والستائر محكمة..الانترنت مسددّ حتى نهاية تموز..بطاقة الصرّاف بجيبي..ماذا بعد؟..هل سيفتقدني عمال المقهى..على أي حال ودّعت بعضهم لكني لم اجدّ البقية..التفاصيل الصغيرة تملأ كفة تفكيره.. فهي خلاصة يومه الممتلىء بلا شيء...
إشارة حزام الأمان تظهر على الشاشة..يتبعها صوت كابتن الطائرة عبر الميكرفون الداخلي...((سيداتي،سادتي اسعد الله مساءكم.. دقائق و يبدأ الهبوط التدريجي على مدرج مطار الملكة علياء الدولي..استغرقت الرحلة الى عمان ثلاث ساعات وعشرين دقيقة ، درجة الحرارة في الخارج 37 درجة مئوية والرطوبة 85..لسلامتكم يرجى ربط الأحزمة..والالتزام بالبقاء في مقاعدكم لحين الوقوف التام..مع تمنياتنا لكم بإقامة سعيدة.. عندها تمرّ إحدى المضيفات تعيد المقاعد إلى مكانها الطبيعي وتتأكد من أغطية الصناديق الفوقية...تبتسم للمسافرين وتمضي بطريقها...
تميل الطائرة يميناً..ثمة أودية متعرّجة كعروق نافرة في يد عجوز... تهبط أكثر..فيرى تقاسيم أمه المشتاقة أكثر... يتوضأ من سماء «الأردن»،يتوجه شطر وجه عمّان..يمدّ سجادة عينيه ويصلي...
***
يا طائر الغربة...اهبط على دالية الشوق في مدرج «عمان»..فقد انضج الانتظار عناقيد قلوبنا...
ahmedalzoubi@hotmail.com
الرأي