«النُظم العربية» وحرب صناعة الأوهام والشائعات ..
راكان المجالي
07-07-2011 02:54 PM
الصراع بين النظم السياسية العربية، على اختلاف أنواعها، وبين وسائل الاعلام، واسعة الانتشار والتأثير، وكذلك وسائل الاتصال الحديثة، تزايد على نحوٍ لافت، مع انطلاق شرارة الاحتجاجات والثورات الشعبية العربية، وان كان موجوداً في الأصل، وبدرجات متفاوتة، منذ سنوات. وعلى الرغم من أنّ تلك الأنظمة بذلت محاولات كثيرة، بهدف احتواء التأثيرات السلبية لتلك الوسائل، على أوضاعها وشؤونها الداخلية، بما في ذلك محاولات التعايش معها، الا أنّها لم تجد في النهاية، وخصوصاً في ذروة الأزمات، بُدّاً من استخدام الوسائل التقليدية الأنجع للسلطات، بالمنع والحجب والحظر. هذا اضافة الى استخدامها لأقدم أسلحة الاعلام في التاريخ، وهو الاشاعات، ذلك السيف ذو الحدّين، الذي تحوّل في اللحظات الأخيرة الى سيفٍ مسلط على رقبة السلطة نفسها..!؟
وعلى الرغم من كلّ ذلك، فانّ الناس، في قارّة العرب المنكوبة اليوم، ما زالوا يشاهدون يومياً، ويتعرّضون الى أبشع امتحانات الصراع على اشاعة الخبر ومنعه، وبوسائل دامية، يجري فيها تشويه الكثير من الثوابت وأشكال اليقين في حياة الناس. فهل يُمكن القول حقّاً بأنّ الخبر هو ما يجعل الناس يتحدثون ..؟، كما يقول رئيس تحرير احدى الصحف المحلية الأجنبية. يكتسب السؤال أهميته مِن تطور وسائل الاتصال، وأدوات قياس الرأي العام، وانتشار المواقع الالكترونية، وتزايد التعليقات المكتوبة على المواد المنشورة فيها، ما جعل البعض يعتبر ذلك دليلاً على أهميتها وانتشارها..!؟
اذا صحّ ما سبق، وهو غير صحيح في معظمه، فانّ معيار الخبر ليس صحته، بل قدرته على توليد الشائعة، كما يقول الكاتب جان نويل كابفيري ، في كتابه الشائعات.. الوسيلة الاعلامية الأقدم في العالم . وبمعنى آخر فانّ المعلومة التي لا تشكل خبراً لا يمكن أن تولّد شائعة . وبهذا المعنى، يمكن تصنيف أنماط الدعاية والاعلان، التي تلجأ الى المبالغة أو التدليس ، في عرضها للسلع والمواد الاستهلاكية، أو الترويج لمشروعات وشركات بعينها، على أنها تقوم بترويج الشائعات . وذلك باعتبار أنّ ذلك الترويج يتمّ لأشياء غير حقيقية تماماً، عبر استخدام وسائل الابهار الفنية ، بما في ذلك الصوت والصورة. وهنا، قد ينحرف الاعلام عن هدفه الحقيقي ورسالته المهنية، فيصبح مروّجاً وصدى لجهات بعينها، بما في ذلك امكانية التورّط في نشر اشاعات غير حقيقية، تقوم على توظيف الأخبار والمقالات والتحقيقات ، بكلّ ما يعنيه ذلك من تشويه للحقائق وتزوير للأحداث.
هنا بالضبط، تأتي أهمية كشف أسرار الشائعة ، وأسرار مصنّعيها ومروّجيها ومصالحهم، في كل زمان ومكان. ذلك أنّ نقل الحقائق أولا بأول هو العدوّ الرئيس للشائعات، التي لا تظهر وتتعاظم الا في غياب الحقائق. فالاثارة والغموض هما الشرطان الأساسيان اللازمان لانتشار أية شائعة.
وللشائعات أنواع، منها الاشاعات التفسيرية ، التي تصدر عن الناس الذين صدموا من حدث مروّع ومفاجئ، ويبحثون له عن تفسير. و الاشاعات التبريرية ، وهي التي تصدر وتنتشر عن طريق مصادر رسمية ومحددة، عادة ما تكون تابعة للسلطات ، حيث تنتشر منها اشاعات تهدف الى السيطرة على الرأي العام، لتبرير قرارات أو اجراءات أو مواقف. و الاشاعات التدميرية ، التي تهدف الى تشويه وتدمير الصورة المعنوية العامة لشخص حقيقي أو معنوي، خدمة لمصلحة آخرين. وكذلك الاشاعات العلاجية ، التي تستهدف رفع المعنويات العامة، ومعالجة الاحباط واليأس في نفوس الناس، عبر تمرير أخبار وهمية ولكنها مرغوبة، ليحلم الناس بها. وعادة ما تحظى هذه الأخبار بأهمية مطلقة في حياتهم، خصوصاً تلك التي تتعلق بمعجزات دينية، أو بالمال والصحة، وهي، في الغالب، شائعات قصيرة المدى نسبياً. كما أنّ الأسطورة تُعتبر أقدم أشكال الاشاعات ، فهي تقوم بوظيفة سد الفراغات المعرفية المختلفة في الأزمان القديمة، حين كانت المعارف بدائية، وامكانية تحصيل المعلومات محدودة. أما الشكل الأكثر انتشاراً للشائعة، فهو النكتة، وهناك مَن يعتبر النكتة شائعة كاريكاتورية ، فهي مثل الشائعة، تقوم على العناصر الأسطورية والتاريخية والعرقية والدينية والاجتماعية. وبالطبيعة الساخرة للنكتة، فانها (أي الشائعة) تجتاز حواجز عقلانية ونفسية كثيرة، وتنتشر بسرعة أكبر، وتتخطّى عقبات كبيرة وتعوّض ما يشوبها من متناقضات.
ويبقى أن الشائعات، وما اصطلح على تسميته ب علم نفس الشائعة ، يشكّل عصب صناعة الأوهام عند الجماعات والشعوب، وهو ما يقع في صلب اهتمامات السياسة والتجارة والاستراتيجيات. فالشائعات تنتشر أكثر في أوقات الأزمات، وفي مناخات الظروف الضاغطة أو المثيرة للقلق، كالحروب والكوارث والأزمات، الاقتصادية والشخصية والاجتماعية، وخصوصاً، اذا كان هناك غموض أو تعتيم اعلامي.
في هذه الأيام العربية العصيبة، ربما تُمتحنُ في حياة العرب، الثقافية والمعرفية، نُظُماً وشعوباً، أكثر قدراتهم ورواسبهم أصالة. فالوسائل التقليدية، في نشر الخبر واشاعته وترويجه، تنهار وتتسرّب بوتيرة عالية من أيدي من يلجأ اليها، لصالح وسائل تقنية جديدة، لا دخل لأحدٍ من العرب في السيطرة عليها والتحكّم بها. تماماً، كمن يسابق أحداً، في ارسال رسالة، باستخدام حمام الزاجل، بينما يستخدم منافسه البريد الالكتروني..!؟
rakan1m@yahoo.com
(الدستور)