منذ غروب الخميس يبدأون باحتلال مساحات وزوايا السوق..تصطف «البكمات» تباعاً ينزلون بضاعتهم القديمة، يختارون أمكنة استراتجيبة وواجهات المداخل..لقد باتوا يعرفون بحكم الخبرة خارطة طريق زبائنهم ؛من اين يبدأون وأين ينتهون!!..بعد ان ينتهوا من الترتيب والتوافق على الأماكن.. يصافحون بعضهم، يسألون عن «حاصل جمع» الاسبوع الماضي، يتبادلون الشتائم والسجائر ، «يتكاسرون»..ثم يتوسّدون خردواتهم وينامون..
الشمس أول زبائن سوق الجمعة..تصحو على صيحاتهم المتراكضة في المكان الواسع، حناجر مختلفة..لبضائع مختلفة..لا يملّون النداء..فهو دخان الفقر المتصاعد...وهو زفير حبّ العيش الذي يجمعهم...كل يؤمن بمعروضاته ويسوّقها على أنها الأفضل..أتوقّف كثيراً..امام مقتنيات لا يمكن الاستفادة منها..»مونيليكس» مكسورة، مكواة بدون قاعدة، سماعة كمبيوتر متهالكة، تلفزيون بدون شاشة، باب ثلاجة، بربيش غسالة،»ماسورة أرجيلة» سيفون مستعمل،اكزوزت مخزوق..وأشرطة لعبد الحليم حافظ...
في ركن البالة: بنطلون جينز أخضر مقاس 42..لونه باهت عند الركبتين!! يبدو ان صاحبه المرحوم كان كثير الركوع، جرزة صوف ثقيلة ولها رقبة،انها جيدة ..لكن لو أن درجة الحرارة ليست 40.. قميص مختوم بورود كبيرة، ترى من أي قارة اتى؟ هل كان صاحبه عاشقاً الى هذه الدرجة؟ ما اسم حبيبته؟ وكيف انتهت قصّتهم؟! وقبل ان اسرح بخيالي بعيداً وانسج للقميص شخوصاً وأبطالاً يعيدني الى ارض السوق صياح ديك كهل بالكاد أكمل صيحته حتى احمر وجهه وخارت قواه...ديك كبير، ظهره مرتفع ورقبته «ممعوطة» تماما، لا ريش عليها وجلده متجعّد ومتهدّل من حرارة الشمس مثل الراحل «ريغان»..نظرت في عيني الديك جيّداً لأتأكد أن كان قد درس «بصفّي» ام لا، وجهه ليس غريبا عليّ ..على كل الأحوال أجزم أنه من جيلي ولو لم يكن «بشعبتي»..
خطوتان أخريان...عجوز تضع «زغاليل» في كرتونة كثيرة الثقوب..ثمة اكتظاظ في الكرتونة كلما فتح احدهم الغطاء الفوقي ليرى العدد والحجم، ازدادت «الكركعة» ..ترى ما شعور الزغلول عندما «يعسّه» أكثر من مشترٍ في النهار ويبخس من سعره!!.. فقط كركعة!!
أتابع ترتيل الوجوه ..اجمع البومي في ذاكرتي ..لأرى كل الجالسين والعارضين والمشترين لا يبغون شيئاً سوى أن يبقوا متمسّكين بتلك الطبقة الرقيقة من الستيرة..وبآخر خيط للكسب الحلال ..هؤلاء هم حرّاس العيش الحقيقيين.
مع أول تكبيرة للجمعة ..أنفضُ يديَّ من وجع السوق، لأكتشف أني لم اشتر شيئاً..لكنني امتلكت الكثير ..
ahmedalzoubi@hotmail.com
الرأي