facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




شارع المحطة: ذاكرة مدينة تذهب بعيدًا


مصطفى القرنة
09-04-2025 12:01 AM

عندما كنت صغيرًا، كان شارع المحطة هو العالم بأسره. كانت تلك اللحظات التي أمشي فيها على أرصفة ذلك الشارع تمثل لي شيئًا يشبه السعادة، ولكنها سعادة غامضة، كأنها لحظة تُضيء ثم تغيب. لم يكن في قلب المدينة مكانٌ آخر يشبهه، بل كان هو الطريق الذي يربط بين حياتنا في الأطراف ووسط المدينة، بين المحطة وقلب القصبة. في تلك الأيام البعيدة، كان شارع المحطة أكثر من مجرد شارع، كان معلمًا من معالم الزمن، وكان تاريخًا يشهد عليه كل حجر من حجارة الأرصفة.

ذاك الشارع العتيق، الذي كانت شركات المشروبات الغازية تنتشر فيه، كانت تحمل في لوحاتها الإعلانات اللامعة صورًا مشبعة بالذكريات. كانت تلك الشركات، التي تملأ أرجاء المكان برائحة الصودا والسكر، جزءًا من نسيج المدينة الاجتماعي. ومع كل زجاجة كانت تباع، كانت تُحاك قصة جديدة تُضاف إلى تاريخ المدينة. ولكن الأهم من ذلك، أن تلك الشركات كانت تشكل جزءًا من الذاكرة الشعبية التي لا يمكن للزمن محوها. كانت تروي لنا حكايَاتٍ أحيانًا، وحكايات أخرى كانت تحمل في طياتها رغبات المستقبل الذي لا نعرفه بعد. ومن بين تلك الحكايات، كانت شركة الدخان، التي كانت مكانًا للحديث والجلوس، ولم تكن مجرد مصنع للمنتجات، بل كانت ملتقى لمن تجمّعهم الشوارع وأطياف المدينة.

كان شارع المحطة حينها حالة فريدة، لا يشاركه شارع آخر في تلك المدينة العريقة. لم تكن هناك شوارع كثيرة تربط بين المحطة ووسط البلد، وكان هذا الشارع الذي يعبره الناس سيرًا على الأقدام أو باستخدام المركبات، بمثابة الشريان الذي يضخ الحياة في المدينة. وفي ذلك الزمان، لم تكن هذه المدينة مشوشة كما هي اليوم، ولم تكن المسافات قد ضاعت بين الأحياء الحديثة والمناطق القديمة. كان كل شيء واضحًا، وكل زاوية تعرفها دون أن تكلّف نفسك عناء البحث.

وأذكر جيدًا محلات الإطارات التي كانت تقع على جانبي الطريق. كانت هذه المحلات تمتد على مسافةٍ طويلة، وكان الجميع يعرف أصحابها وحكاياتهم التي تشبّثت في الجدران القديمة. كانوا يعرفون الناس بالاسم، يعرفون السيارات والسيارات التي كانت تعبر المكان باستمرار. كانت تلك المحلات جزءًا من الحياة اليومية، وكأنها تجسيدٌ للواقع القاسي، الذي لا يتوقف في الحركة. ولكن، في الوقت نفسه، كانت تقدم شيئًا آخر، كانت تروي لنا قصص البقاء والصبر في وجه الحياة.

ومع كل هذه التفاصيل التي كانت تزين الشارع، كانت المطحنة هي أكثر الأماكن التي تأسر الأنظار. كانت هناك، كما لو أنها تراقب العالم من فوق، تستحضر مشهدًا آخر، مشهد المدينة التي لا تنام، مشهدٍ يضم أصوات الحياة والهمسات الصامتة. كانت المطحنة تلك بمثابة قلب المدينة، تنتج الحياة من الحبوب التي تطحنها، وتصنع الغذاء، وفي ذات الوقت كانت تقدم نوعًا آخر من الرؤية التي تجعلنا نتساءل عن معنى الوقت والجهد.

كنت أذهب في ذلك الشارع الصغير، وكل شيء فيه كان يحملني على جناحي الذكريات. شارع المحطة لم يكن مجرد شارع عادي، بل كان زمني الخاص، كان مدينتي التي ترسخ في ذاكرتي. وفي كل مرة كنت أقطع فيها المسافة بين المحطة ووسط البلد، كنت أجد شيئًا جديدًا، شيئًا يضيف إلى مشهد الحياة الغامض. كان شارع المحطة بمثابة الساحة التي يجتمع فيها البشر، حيث تتقاطع فيه الهموم والآمال، وتتلاقى فيه الأقدار بطرق عجيبة. كانت المسافة بين المحطة ووسط المدينة ليست مجرد مسافة مكانية، بل كانت مسافة روحية، تجعل المرء يشعر بالانتماء العميق إلى هذا المكان الذي لا تقتصر معانيه على ما يراه الناس في الخارج، بل يمتد ليشمل كل لحظة عشتها فيه.

أما اليوم، فقد تغير كل شيء. تغيرت المحلات، اختفت الشركات القديمة، واختفت تلك المحلات الصغيرة التي كانت تدور حولها حلقات الحياة. أصبح شارع المحطة الآن شيئًا آخر، يعكس تغيرات الزمن، ويظهر كيف يمكن للمدينة أن تبتلع ماضيها وتحوله إلى حاضرٍ مختلف. ولكن لا شيء يمحو تلك الذكريات، لا شيء يغير مشهد ذلك الشارع الذي كان دائمًا معبرًا بين الأزمان.

في فلسفة الحياة، يمكننا القول إن المدن لا تتوقف عن التغيير، ولا يبقى في نهايتها سوى الذكريات التي نتشبث بها كأنها مراجع تعيدنا إلى أماكن فقدناها. كما كان شارع المحطة يعبر الزمن بأصواته وألوانه، كذلك نحن نعيش في هذه الأماكن التي تتغير باستمرار، ولكنها تظل قابعة في أرواحنا، تحملها كل خطوة نخطوها في مسيرتنا. وعندما نتذكرها، نعود إلى تلك اللحظة التي كانت فيها الحياة أبسط، وأسهل، وأكثر صدقًا.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :