لم يعد العالم في هيئته الراهنة كما كان بالأمس، ولن يكون كما نتخيله غدًا. فنحن نعيش لحظة تاريخية تشهد تصدّع المسلّمات، وانهيار البنى التحتية للمعنى، واضطراب العلاقة بين الإنسان ووجوده، بين العقل ومصادره، بين التراث وتجلياته، وبين الحاضر وإكراهاته. في هذا المنعطف الحاد من التاريخ الفكري والحضاري، لا يعود الشك مجرّد موقف عدمي أو رغبة في الهدم، بل يتحول إلى أداة تحليلية ضرورية لإعادة تشكيل الوعي، وإرساء جهاز معرفي أكثر قدرة على الفهم والتجاوز.
هذا المقال لا يدّعي تقديم أجوبة نهائية، بل يسعى إلى إعادة فتح الملفات المغلقة، وإعادة التفكير في أدواتنا المعرفية، ومفاهيمنا المتوارثة، ومواقفنا من التراث والحداثة على حدّ سواء. إنه لا يقف في موقع العداء للتراث، ولا في موقع الانبهار الساذج بالحداثة، بل يتخذ لنفسه موضعًا نقديًا في المسافة الحرجة بين الشك كوسيلة للتحرر، والتثبت كأداة لبناء الرؤية.
إنه موضوع يُعلي من شأن السؤال، ويدعو إلى تبنّي ما يمكن تسميته بـ"عقل حضاري ناقد"؛ عقل لا يخشى مساءلة المسلمات، ولا يتردد في الاعتراف بالفراغات المعرفية، ولا يتهرب من مواجهة ذاته في مرآة الفكر. عقل يستأنف التفكير، لا ليهدم، بل ليبني، ولا ليُثبت أو ينفي بشكل قاطع، وإنما ليمارس التوازن الواعي بين الإثبات والنفي، بين الوفاء للتراث والانفتاح على المستقبل.
لقد هيمنت في العقود الأخيرة خطابات متضادة على المشهد الفكري: خطاب تمجيدي للماضي يعيد إنتاج ذاته في تكرار دائري، وخطاب حداثي نفعي يكرّس قطيعة معرفية غير ناضجة. كلا الاتجاهين أغفل الأساس الجوهري لأي مشروع نقدي حقيقي: أن النقد لا يكتسب مشروعيته إلا حين ينبثق من وعي مركّب، وعي يشتغل على الداخل بالصرامة نفسها التي يشتبك بها مع الخارج، ويزاوج بين تفكيك النصوص وتوقير التاريخ، ويخاطب المتلقي بوصفه شريكًا في إنتاج المعنى، لا مجرد مستهلك سلبي له.
هذا التصور يرفض اختزال الخطاب الثقافي في نخبويته الأكاديمية أو شعاراته المعلّبة، ويتوجّه نحو استنهاض الذات الباحثة الكامنة في كل قارئ؛ تلك الذات التي أنهكها الاستهلاك المعرفي المكرور، وأرهقتها ثنائيات التراث والحداثة، والأصل والوافد، اليقين والارتياب. ومن هذا المنطلق لا يُقدّم الطرح خطابًا جاهزًا، بل مشروعًا لإعادة ترتيب الأشياء من الداخل، لا استيرادًا ولا اجترارًا.
في نسيج هذا المشروع يتقدّم الشك كبوابة للمعرفة، كما تجلّى في تأملات ديكارت، وكما أعاد تأطيره محمد عابد الجابري في قراءته للعقل العربي، وكما تمثّله المثقف العربي في لحظاته الأشد توترًا وانكشافًا. الشك هنا مقام فكري يتمدّد عبر فصول الكتب التراث، ويتحوّل إلى أداة لتفكيك القوالب الذهنية، ولمساءلة المشاريع الأيديولوجية المغلقة، ولإعادة فحص المفاهيم المتداولة.
أما التثبت، فليس نقيض الشك، بل استكماله: هو لحظة البناء التي تلي التفكيك، محاولة لتأسيس بدائل معرفية تتأسس على المراجعة العميقة، وعلى انفتاح نقدي لا يكتفي برفض السائد، ويطمح إلى تجاوزه بتأصيل جديد، لا يستسلم لسلطة التقليد، ولا ينخدع ببريق الحداثة.
يتوزع الأمر على مجموعة من المحاور المتشابكة، تبدأ بإعادة مساءلة البُنى النظرية الكلاسيكية، مثل الديكارتية، والماركسية، والخطاب التنويري، ثم تنفتح على تحليل معمّق للعلاقة المركّبة بين التراث والحداثة، وبين الموروث والعقل، وبين السلطة والنص، لتنتهي برؤية تحليلية لواقع الفكر العربي في سياق العولمة، والرقمنة، واختلال المركز الحضاري. في كل مرحلة من هذه المسارات، يشتغل النص على تفكيك البديهيات، وتوسيع الهامش التأويلي، وكشف الأنساق الخفية التي تهيمن على أنماط التفكير والخطاب في المجالين الثقافي والاجتماعي.
لا يدّعي هذا المقال تقديم أجوبة نهائية، ولا يبني نظرية شمولية، لكنه يحرص على خلق فضاء للتفكير المفتوح، حيث يصبح السؤال هو المحرّك الأساسي للمعرفة، وحيث يُعاد تشكيل العلاقة مع المعنى من خلال التحرر من الإحالات الجاهزة، والانعتاق من قوالب التلقين الأيديولوجي. إنه مشروع فكري يتحرك ضد الكسل المعرفي، وضد الاستسلام للجاهز، وضد الخضوع لمنطق الحتمية التي تُقصي البدائل، وتقمع السؤال.