هل صحيح أن أمريكا نمر من ورق؟
داود عمر داود
05-04-2025 01:44 PM
انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو، خلال الأيام الماضية، تضمن مقتطفاً من مقابلة تلفزيونية مع الدكتور غازي ربابعة، استاذ العلوم السياسية، وتحليلاً سياسياً حول العدوان على غزة، يمكن للمرء أن يتفق أو يختلف معه. لكن الجانب الأهم في هذا المقتطف هو قوله إن "أمريكا نمر من ورق"، فهل هذا صحيح؟
"أمريكا نمر من ورق":
يقول الدكتور ربابعة "الناس يتحدثون عن أمريكا ... وأمريكا هي نمر من ورق. أعطني معركة واحدة دخلت فيها أمريكا وانتصرت. هُزمت في لبنان وخسرت 400 (جندي) من المارينز. ودخلت العراق وهُزمت، ودخلت أفغانستان وهُزمت. وفي فيتنام انهزمت، وفي الصومال انهزمت. صحيح أن أمريكا تمتلك ألف قاعدة عسكرية في العالم، لكن لم يبق على أراضيها سوى 30 ألف جندي فقط، ولكنها تختبىء بحماية المحيطات، بحر الظلمات".
أمريكا ليست نمراً من ورق:
وفي معرض الرد على الدكتور غازي ربابعة أقول: إن استنتاجاته أعلاه تناقض الواقع، وتفتقر الى الدقة، مع كل الاحترام لشخصه الكريم. فأمريكا لم تُهزم في حرب فيتنام مثلاً، بل انتصرت وتحقق لها ما أرادت من وراء تلك الحرب، والعبرة في النتائج. فقد كان من نتائج تلك الحرب أن تمكن الرئيس الأمريكي الأسبق آنذاك، ريتشارد نيكسون، من "فتح الصين"، كما يشار الى ذلك في الأدبيات السياسية الأمريكية، من خلال زيارته التاريخية إليها، عام 1972.
فالتفوق الأمريكي في حرب فيتنام أجبر الزعيم الصيني "ماو تسي تونغ" على التخلي عن "مبدأ عدم التعايش السلمي مع النظام الرأسمالي"، كما تريد أمريكا. واستطاع "نيكسون" أن يقيم علاقات دبلوماسية بين بلاده والصين. وبعد فترة من وفاة "ماو" بدأت الصين في التحول من دولة ذات اقتصاد اشتراكي، منطوية على نفسها، الى دولة "رأسمالية" منفتحة على العالم. ونما اقتصادها 70 مرة، وأصبح أسرع الاقتصادات الكبرى نمواً، إلى أن أصبح ثاني اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة.
وهكذا فإن من نتائج "حرب فيتنام" أن تحول اقتصاد الصين من النظام الاشتراكي الى النظام الرأسمالي، وأصبحت البلاد جزءًا من المنظومة الاقتصادية الدولية، وتم فك عزلتها، وتخلت عن "مبدأ ماو في عدم التعايش السلمي مع الرأسمالية". هذه النتائج لم تكن لتتحقق للولايات المتحدة لولا أنها انتصرت في حرب فيتنام. بل ان حرب فيتنام كانت من أكبر انتصارات الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وأطول حروبها، إذ استمرت مدة 21 عاماً، 1954-1975.
الانتصار في حروب أفغانستان:
أما أفغانستان فقد انتصرت فيها الولايات المتحدة مرتان. المرة الأولى عندما اخترعت، عام 1979، "فكرة الجهاد" للتصدي للغزو السوفياتي في ذلك العام. وقد استطاعت الولايات المتحدة تجنيد شباب العرب والمسلمين ليقاتلوا السوفيات، وزودتهم بأهم سلاح فتاك ضد الطائرات ألا وهو صاروخ "ستينغر"، الذي كان يصطاد المروحيات السوفياتية، كما يصطاد المرء العصافير. حيث كانت المروحيات هذه وسيلة النقل الأهم في ضوء وعورة تضاريس البلاد. وكانت نتيجة تلك الحرب هي هزيمة الجيش السوفياتي وانسحابه، ثم انهيار الدولة السوفياتية فيما بعد. فحققت أمريكا هدفاً طالما راود ساستها لعقود، وبذلك انتهت ما سميت بـ "الحرب الباردة". وهكذا خرجت أمريكا منتصرة.
أما الاحتلال الأمريكي لافغانستان، بعد أحداث أيلول سبتمبر 2001، فقد كان عملية عسكرية ناجحة حققت من خلالها الولايات المتحدة أهدافاً متعددة، في مقدمتها الاستحواذ على ثروات باطن الأرض من المعادن. إذ تمتلك أفغانستان النحاس، وخام الحديد، وعناصر اخرى نادرة من المعادن، إلى جانب مناجم الألمنيوم الكبيرة، والذهب، والفضة، والزنك، والزئبق. إضافة إلى الليثيوم، والنفط والغاز الطبيعي واليورانيوم والفحم. وقد استولت الولايات المتحدة كل هذه المعادن عبر عقدين كاملين من الزمن، حتى أنها غادرت ولم تأبه بسحب معداتها العسكرية، وتركتها غير آسفة عليها. فالحقيقة إذن أن أمريكا انتصرت في هذه الحرب أفغانستان ولم تنهزم.
احتلال العراق والاستحواذ على عائداته النفطية:
أما قول الدكتور ربابعة أن أمريكا انهزمت في العراق، فهذا قول يجانب الصواب تماماً. فقد حققت أمريكا أهدافها من احتلال العراق، 2003، وأكثر من ذلك. إذ أسقطت نظام صدام حسين، ثم فتحت الطريق لإيران الفارسية كي تتوسع على حساب المنطقة العربية، فقام "بول بريمر"، بتسليم العراق لإيران، على طبق من ذهب. ثم سمحت أمريكا لإيران بالسيطرة على سوريا، ثم اليمن فيما بعد، إضافة إلى لبنان. حتى ظن الملالي أنهم أعادوا بناء إمبراطورية فارس القديمة.
أما من حيث الثروة النفطية، فقد وضعت الولايات المتحدة، على الفور، يدها على جميع صادرات النفط العراقي، التي تبلغ أكثر من 100 مليون برميل شهرياً. ولم يمض شهر واحد على سقوط بغداد حتى أصدر الرئيس الأمريكي آنذاك، جورج بوش الابن، أمراً تنفيذياً بإنشاء "صندوق تنمية العراق" كي تودع فيه عائدات النفط العراقي.
وما زال هذا الأمر قائماً بعد مرور أكثر من عقدين. وهناك رقم متداول لحجم عائدات النفط العراقي، منذ 2003، لغاية 2021، حسب تصريح للرئيس العراقي برهم صالح، الذي قال انها بلغت أكثر من تريليون دولار. ويرسل القائمون على "صندوق تنمية العراق"، في واشنطن، الفُتات إلى حكومة بغداد، لتغطية المصاريف الشهرية والرواتب فقط، ما يكفي لإبقاء الشعب العراقي على قيد الحياة.
أما باقي العائدات النفطية فتظل بيد الأمريكيين "في الصندوق". بما يعني أن العراق خاضع تماماً للاستعمار الأمريكي والهيمنة التامة. فكيف يقال لنا أن أمريكا انهزمت في العراق؟ فهذا القول يخالف الواقع جملةً وتفصيلاً. فقد حققت أمريكا كل ما أرادت من وراء احتلال العراق وأكثر من ذلك.
الخلاصة: استنتاجات غير دقيقة
إن أقوال واستنتاجات الدكتور غازي ربابعة، التي عبر عنها، في المقطع المنشور من المقابلة، ليست دقيقة، وغير صائبة. والصحيح أن الولايات المتحدة لم تخض حرباً، منذ الحرب العالمية الثانية لغاية الآن، إلا وانتصرت فيها وحققت أهدافها. دليل ذلك أنها تهيمن على عالم اليوم، وتفرض إرادتها على دوله فرضاً، في كل المجالات. فالمنتصر هو الذي يفرض إرادته، بينما المهزوم لا يستطيع ذلك. فلو كانت الولايات المتحدة مهزومة وغير قوية لما استطاعت أن تفرض هيمنتها على باقي العالم. هذا مع كل التحية والتقدير للاستاذ الدكتور غازي ربابعة، القامة العلمية الكبيرة، الذي تخرجت على يديه أجيال من طلاب العلوم السياسية والعلاقات الدولية.