الذاكرة حين تُستدعى من مقامها العميق، لا تأتي لتؤنس وحشة الحنين، بل لتوقظ النائم في المعنى. ليست مرآةً لوجهٍ مضى، بل نافذة تُطل منها الحقيقة وقد نُقّيت من كل طمس وتزوير. لا تُبقيك حيث كنت، بل تدفعك إلى مساءلة الحاضر: من أنت دون ما تتذكّر؟ ومن بقي منك إن ضاعت الملامح وتبعثرت الأسماء وانقطعت السيرة بين الجد والحفيد؟ الذاكرة ليست فعلًا ماضويًّا كما يُراد لها أن تكون، بل هي مستقبلٌ لا يولد إلا على ركام الحكايات التي لم تُنسَ، ولم تُعدّلها الجهات الأربع على مقاس التوازنات الجديدة. هي الفعل الأول، حين تفقد الأدوات، والموقف الأخير، حين تنهار الجغرافيا وتتآكل السياسة وتتآمر اللغة. في الذاكرة يسكن الوطن، كصوت، كدمعة، كملمح غائب يظهر في لحظة عابرة فلا تعرف إن كان حنينًا أم نداء. فيها تُخبأ الأشياء التي لا تصلح لتُقال، لكنها تُدرك بالإيماءة، بالارتعاشة، بارتباك الحنين الذي يفضحك فجأة وأنت تمسك صورة قديمة أو تمرّ بلفظة كانت تُقال في بيتٍ لم يبقَ منه حجر.
الذاكرة حفظٌ، ورفضٌ ضمنيٌّ للنسيان، وإصرارٌ على إبقاء الباب مفتوحًا بين الحاضر وما ينبغي أن يُستعاد. حين تُجرّد الشعوب من حقها في أن تتذكّر، فإنها تُصبح قابلة لإعادة التشكيل، تقبل الروايات الجاهزة لأنها لم تعد تملك ما يناقضها، وتمشي في الطرقات المرسومة لها لأنها نسيت تلك التي سُلِبت منها. والذين يُصنّفون الذاكرة ضمن جماليات الرثاء، يفرّغونها من أنيابها، ويعيدونها إلى متحف المشاعر المؤرشفة، فلا تكون خطرًا على أحد، ولا تهديدًا لأي سردية مفروضة.
لكن الذاكرة، حين تُفعَّل كفعل مقاومة، تُربك الوثائق، وتعرّي الصمت، وتُفسد على الطغاة نشوتهم. لأنها لا تُقاوم بالسلاح، بل بما لا يمكن نزع سلاحه: بالشهادة. بالصوت الذي لم يُسمع لكنه بقي، وفي الأغنية، وفي الطقس، وفي الاسم الذي يُطلق على المولود الأول تكريمًا لمن لم يعد. وبالصورة التي لا تُعرض، لكنها تُخبّأ تحت الوسادة، وبالعبارة التي لا تُقال علنًا، لكنها تمرّر في قصة قبل النوم، في نظرة الجد إلى حفيده حين يقول له: “هناك بيت، كان لنا، في مكان لا تراه على الخريطة.”
الذاكرة إذ تُكتب، تُسجَّل، وتُسترد. لأن التدوين البارد لا يكفي، والمناهج لا تقول كل ما يجب أن يُقال. لهذا يخرج صوتها من القصائد، ومن الحكايات، ومن العجز عن النسيان حتى حين يكون النسيان أكثر راحة. هي مقاومة لا تحتاج إلى شعارات، لأنها تُقال حتى في الصمت.
مقاومة تُمارَس بالتمسّك بالمعنى، بمقاومة التشويه، وبرفض المساومة على الألم تحت مسمى الواقعية أو العقل السياسي، لا بالكلمات.
أن تتذكّر، يعني أن ترفض أن تكون نسخة من رواية الآخر، يعني أن تحمل إرثك كحقيقة لا كحملٍ زائد. أن تعرف موقع الجرح وتُشير إليه، لتقول: من هنا بدأ السقوط، ومن هنا ستبدأ العودة. أن تذكُر الأشخاص، واللغة التي كانوا يتحدثون بها، والنبرة، والمجاز، وحزن العيون حين كان يُقال: "سوف نعود".
الذاكرة، حين تُصان بهذه الدقة، تتحوّل من مادة شعورية إلى قوة معرفية، من حالة وجدانية إلى موقف أخلاقي، ومن عبء الماضي إلى خريطة مقاومة لا تموت. تفضح التحوّلات المُريبة في الخطاب، وتُحرج كل تنازل، وتُبقي أمام العقل والقلب معًا سؤالًا بسيطًا، لكنه مرير: من كنّا؟ وماذا فعلنا بما كنّا؟ ومن ثقل هذا السؤال تبدأ الهزات الحقيقية، في الوعي. لأن من لا يعرف من كان، لا يعرف إلى أين يذهب، ولا كيف يعود. ومن فقد صورته الأولى، لن يجد نفسه في مرآة الآخرين. هكذا تُختبر الأمم، كم حفظت من أسماء الشهداء، وكم ظلّت تحفظ المعنى الذي استشهدوا من أجله. فالتاريخ لا يرحم الذين تخلّوا عن ذاكرتهم، ولا يُنصف الذين سلّموا سرديتهم لخصمهم طواعية، ورضوا بأن يرووا حكايتهم بصوت لا يشبههم. كل شعب نسي ظله صار قابلاً لأن يُختزل في مشهد، أن يُوقَّع باسمه على ما لم يَقُل، وأن يُمثَّل على غير صورته حتى في لحظة موته.
وفي مواجهة هذا كله، تصبح الذاكرة بما نتمسّك به، وما نُصاغ به من جديد. أن نكتب أنفسنا كما نحن، لا كما نُراد، أن نحمل الحكاية في الكتب، وفي القول والسلوك والانحياز، أن نُعيد لوجوهنا ملامحها الأصلية قبل أن تطمسها ضرورات النجاة ومكر الخطاب. في هذا الإصرار على ألا نكون إلا نحن، تنمو بذور المقاومة، وتُولد المعاني التي لا تَشيخ، وتُفتح تلك الفجوة الصغيرة في جدار النسيان، لتتسرّب منها عودةٌ مؤجلة… لكنها لا تموت.