أمِحنةٌ هذه أم هدية خفية؟! .. حين تبتسم العاصفة لمن يقف في وجهها
محمود الدباس - ابو الليث
04-04-2025 11:51 PM
ما أضيق العيش.. لولا فسحة الأمل.. وما أشد الظلمة.. لولا بارقة النور في عتمة الدروب..
كذلك هي المحن.. لا تأتي لتَطعَن.. بل لتُوقظ مَن غفل.. وتُسقط مَن وَهِم أنه في مأمنٍ من المتغيرات.. فتُقلَب الموازين.. وتُكشَف الحقائق.. وتعيد ترتيب الأولويات..
كم من موظفٍ ظن أن المؤسسة التي يعمل بها.. هي نهاية المطاف.. فاستقر فيها استقرار الجذور في الأرض.. رافضاً مجرد التفكير في غيرها.. فإذا بزمنٍ عاصفٍ يأتيه من حيث لا يدري.. زلزل منصبه.. أو طَرد استقراره.. فاضطُر مكسور النفس إلى الرحيل.. ثم.. هناك فقط.. وجد ذاته.. وجد ما لم يكن يتوقعه.. منصبٌ أرفع.. احترامٌ أعمق.. فرصةٌ لو لم تُفتح له تلك المحنة بابها.. ما بلغها أبداً..
وكم من تاجرٍ كسد ماله.. أو خسر سوقه.. بعد أن ظنَّ انه الثابت مكانه.. ولا شيء أفضل مما لديه.. فظنها نهاية المسير.. فاضطر أن يبدل وجهته.. فإذا بالأسواق التي ظنها مغلقة.. تفتح له ذراعيها.. وإذا بالخسارة.. تكشف له سر الربح الحقيقي..
وكذا الدول.. تعلق آمالها باتفاقياتٍ لا تصون مصالحها.. وتُسلم قرارها لدولٍ تحكمها شهوة الهيمنة.. فلا تجرؤ على الالتفات لغيرهم.. خوفاً من الضياع.. أو من قطيعةٍ مؤلمة.. فتصبر على الذل.. وتغض الطرف عن فرصٍ أقرب من ظلها.. لأن بصرها مشدودٌ إلى مَن لا ينظر لها.. إلا كأداةٍ في مشاريعه.. وأحياناً.. لا تنكشف هذه الحقيقة.. إلا عندما يخذلهم مَن ظنوه الحليف الأمين.. وعندها فقط.. تبصر الدول كنوزها المهملة.. وطاقات أبنائها المهمشة.. وتبدأ بنهضةٍ.. كانت كامنة في أحشائها.. تنتظر هزةً تخرجها إلى النور..
العاقل مَن يرى أبعد من موضع قدمه.. لا ينتظر أن تنفجر الأزمة حتى يتحرك.. بل يصنع من كل شقٍ في الجدار نافذة.. ومن كل صدعٍ في الطريق مخرجاً.. فالأزمات ليست نهايات.. بل بداياتٍ للباحثين عن مخارج.. والفُرص لا تزهر على الأرصفة.. بل في الحقول التي تُروى بعرقِ الكدِ والجِدِ.. وتنبت في أرض الألم..
ما أكثر ما قيدتنا الاتفاقيات التي سُمّيت شراكات.. وما أقل ما أخذنا منها.. مقابل ما قدمناه.. بل إن بعضها صار سيفاً مسلطاً علينا.. يمنعنا من النهوض.. ويغلق علينا أبواب البدائل.. ويزيف لنا الحقائق.. حتى أصبحنا نظن أن في البقاء على هذا الحال نجاة..
لكن.. آن الأوان أن نراجع هذه المسَلمات.. وأن نكسر هذه القيود.. التي لم تُبقِ لنا حرية قرار.. ولا كرامة موقف.. فالبدائل ليست أوهاماً.. وإنما هي أفقٌ لا يراه إلا مَن تجرأ على النظر خلف الجدار.. وجعل طموحه عنان السماء.. فالانعتاق لا يكون إلا بالتجرؤ.. والتحرر لا يُمنح.. بل يُنتزع..
ولنا في التاريخ عبرة.. فكل نهوضٍ كبير بدأ من انكسارٍ مدوٍّ.. وكل فجرٍ.. كان بعد أشد لحظات الليل سواداً وحلكةً.. وما فاز باللذة إلا الجسور.. وخسر الراحةِ مَن اعتقد أن السلامة في السكون..
ما أحوجنا اليوم أن نكون جسورين لا في التهور.. بل في القرار.. أن نعيد تقييم كل ما نرتبط به.. أن نطرح السؤال الموجع.. هل ما نظنه أماناً.. هو في الحقيقة قيدٌ ذهبي؟!.. هل مَن رَبَطنا مصيرنا بهم.. هم مَن يسعون لنا بالخير.. أم يسوقوننا إلى تبعيتهم.. دون أن نشعر؟!..
إن الحكيم لا ينتظر أن تحلَّ به المحنة.. حتى يفتح عينيه.. بل يظل عينه على الفرص وإن غابت.. وعقله على الاحتمالات وإن صعبت.. وروحه متأهبة لتحويل كل انتكاسة.. إلى بداية جديدة.. وكل خسارة.. إلى درسٍ ثمين..
فلنكن من أولئك الذين إن واجهتهم العواصف نشروا أشرعتهم لاختراقها.. لا من الذين ينهارون أمام أول ريح.. ولنتذكر دوماً.. أن مَن لا يجرؤ على قطع الحبل.. لن يعرف ما إذا كان يستطيع الطيران..
فلا تلعن العاصفة.. إن كانت هي من ستحملك إلى اليابسة بعد طول تيهٍ.. ولا تفرَّ من الألم.. فقد يكون بوابتك نحو المجد.. وكن على يقين.. أن مَن يملك الجرأة على الوقوف في وجه العاصفة.. قد لا يُهزم أبداً.. بل قد تبتسم له الحياة بأوسع أبوابها.. فأرض الله واسعة..