إرثُ الأجداد .. دربُ الأحفاد
م. عامر البشير
28-03-2025 01:11 PM
الحياة نسيجٌ من الأثر لا من الصدفة
الحياة ليست فوضى عشوائية، ولا مسارًا اعتباطيًا تمضي فيه الأقدار بلا خيط ناظم. بل هي نسيج متداخل من الأفعال والنتائج، حيث تتشابك الخيوط غير المرئية بين الماضي والحاضر، وتمتد نحو المستقبل كجدولٍ ينحت مجراه في صخور الزمن، ليست الصدف وحدها من تقود خطانا، بل هناك أثرٌ دفين يسري فينا كتيارٍ خفي، يوجّه قراراتنا، يلوّن مشاعرنا، ويمتد عبر الأجيال دون أن ندرك.
حضورٌ ممتد عبر الزمن
جدتي، "أم محمد"، رحلت قبل نصف قرن، وكانت من مواليد الربع الثالث من القرن قبل الماضي، أسلمت روحها قبل وفاة والدي بثلاثة وعشرين يومًا، في مستشفى عمّان الكبير، الذي يُعرف اليوم باسم "مستشفى الجامعة الأردنية"، ودّعت الحياة على جرعات متتابعة بسلام، يوم 1977/1/16، كأنها تغرق تدريجيًا في النوم، تاركة خلفها إرثًا لا يُختزل في مقتنيات، بل بحكايات تُروى للأحفاد وأحفاد الأحفاد، في أنماط الشعور وبصمات الروح التي لا تزول.
لم تكن تعرف شيئًا عن الفلسفات الكبرى، ولم تقرأ في كتب الحكمة، لكنها جسّدت، بالفطرة، جوهر "الكارما يوغا"، وكأن حكمة الكون تسربت إلى قلبها مباشرة دون حاجة إلى وسيط أو ماستر.
وحين سلكتُ أنا درب التأمل ودرستُ هذه الفلسفة العميقة، أدركت أنني لم أتعلم شيئًا جديدًا، بل كنت أبحث عن مفاتيح أبواب فُتحت في طفولتي دون أن أعي ذلك.
الطاقة التي تسري في الوجود
في فلسفة "الكارما يوغا"، يُقال إن الإنسان ليس كيانًا منفصلًا عن الكون، بل هو جزء من نسيجه، يتأثر به ويؤثر فيه، كل فِعلٍ، مهما بدا صغيرًا، يترك أثرًا لا يُمحى في توازن الطاقة الكونية.
لم تكن جدتي تدرك هذه الحقيقة نظريًا، لكنها كانت تعيشها بيقينٍ منغمسٍ في قلبها، كانت تؤمن أن للماء ذاكرة، وأنه حين يُترك تحت قبّة السماء، يتشبع بطاقة الكون، فيصبح أكثر صفاءً ونقاءً وانتظاماً، كأنه يحمل في أعماقه سرًّا خفيًّا، أذكر كيف كانت جدتي تملأ وعاءً بالماء كل ليلة، تضعه على حافة نافذة غرفتها، ثم تعود إليه مع أول خيط من نور الفجر، تلمسه بحنوّ وكأنها تستشعر نبض الحياة فيه، ثم تستخدمه في طعامها وشرابها، كمن يتشارك مع الكون لحظة صفاء.
لم يكن ذلك طقسًا عبثيًا، بل انسجامٌ تام مع مفهوم "البرانا"، تلك الطاقة الكونية التي تسري في كل شيء، تحرّك الريح، وتحيي الأرض، وتجعل الحياة تتدفق في مساراتها الخفية.
اللطف ناموس كوني
من أعمق مبادئ الكارما يوغا ألا نُسبب الأذى لأي كائن، لأن كل روح تحمل طاقة فريدة، وكل حياة لها حقها المقدّس في الوجود.
لم تكن جدتي بحاجة إلى فلسفة لتدرك ذلك؛ فقد كان اللطف جوهر وجودها.
لم تقتل نملة في حياتها، ولم تسحق عنكبوتاً أبدًا، بل كانت تلتقطه بلطف، تفتح له الباب، وتطلب منه الرحيل بهدوء، وكأنها تفاوضه على مغادرة عالمها بلا عنف.
قد يبدو هذا المشهد بسيطًا، لكنه يحمل في جوهره فهمًا عميقًا للعالم، ورفضًا للغرور الإنساني، وإدراكًا أن الإنسان ليس سيّد الكائنات، بل وصيٌّ عليها ومسؤولٌ منها.
هذه الفكرة ليست حكرًا على ثقافة بعينها؛ إنها جوهر التصوّف، ولبّ التعاليم والمعتقدات الشرقية، وصدى ممتد في كل فلسفة تدعو إلى التواضع أمام سرّ الوجود.
وكأن الأحفاد، دون أن يدركوا، يحملون في داخلهم هذا الإرث غير المكتوب، هذا الإيمان الغامض بأن القمر ليس مجرد جرم في السماء، بل شاهدٌ قديم على الأحداث، وأن الأشجار ليست مجرد نبات، بل أرواح صامتة، وأن البحر ليس فقط ماءً وملحًا، بل ذاكرة ممتدة عبر الأجيال.
العرفان لغة الخلود
في كل خميس، ليلة كل جمعة، كانت جدّتي توقد عود النّد "البخور"، ليس كطقسٍ عابر، بل كرسالة وفاءٍ ممتدةٍ لسيّدتين هما: "أم إبراهيم" و"أم عبد الله"، اللتين احتضنتا والدي خلال دراسته الطب في جامعة دمشق كابنٍ لهما، مانحتين إياه دفءَ البيت وحنان العائلة أثناء غربته.
لم يكن فعلهما مجرد إيواء، بل كان امتدادًا لمعنى العطاء الخالص الذي لا ينتظر مقابلًا.
دون أن تدري، جسّدت جدّتي فلسفة التصوّف، التي ترى في الوفاء أعلى مراتب الحب، وفي العرفان صورةً من صور البقاء بعد الفناء، فبعض البشر يذوبون في عطائهم كما تذوب الشمعة في ضوئها، لكن أثرهم لا يتلاشى، بل يبقى متوهّجًا في القلوب التي أناروها.
لم تترك "أم إبراهيم" و"أم عبد الله" مجرد ذكريات، بل امتدادًا حيًّا لكلّ قطرة عرفان، ظلّت تتجدد مع كلّ خيط دخان بخور جدّتي، الذي ارتفع نحو السماء، واستمرّ بعد تخرّج والدي لأكثر من عقدين، حتى وفاتها.
في ثقافات الشرق وفلسفات الكارما يوغا، هناك إيمانٌ بأنّ الطاقة لا تفنى، وأنّ الفعل الصالح لا يضيع، بل يعود على أكثر من صورة، كدعاء جدّتي بالصلوات، أو كبخورٍ يُحرق ليملأ الأرجاء بكل طيب، أو كقلبٍ يمتلئ بالامتنان.
كانت جدتي توقد العود وكأنّها تقول: لا شيء يضيع، لا خير يُنسى، لا عطاء يذهب هدرًا... فالعرفان هو لغة الخلود.
الإرث الذي يسري في الدم
حين تعمّقت في دراسة تأثير الجينات، وفهمت كيف أن الصدمات الكبرى يمكن أن تُنقش في الحمض النووي، بدأت أرى الماضي بعينٍ جديدة.
فنحن لا نرث من أسلافنا الملامح فحسب، بل نحمل في داخلنا بقايا مخاوفهم، وندوب أحزانهم، ونبض دعواتهم التي أُطلقت في لحظات الألم.
أثبتت الدراسات الحديثة أن التجارب العاطفية القوية تترك بصماتها في الجينات، فتنتقل آثارها إلى الأجيال اللاحقة.
وكأن الجدّ السابع لا يزال يعيش فينا، ينساب في ذاكرتنا الخفية، اثره موجود في اللاوعي، يلوّن قراراتنا دون أن نشعر، وأن الحبل السرّي ما زال يربطنا بمشيمة الجدّات.
فالإرث ليس مجرد ممتلكات مادية، بل هو تلك الطقوس الصغيرة وبصماتها التي تسري في العروق، تلك المشاعر التي لا نعرف مصدرها، ذلك الحنين المبهم إلى أشياء لم نعشها، لكنها تسكن فينا كأنها صدى لأصوات قديمة تنادينا عبر الزمن.
ربما لن يعرف الحفيد أبدًا كيف أثّرت عليه دموع الجدّ الذي عاش قبل قرن، لكن حين يضع كوب ماء تحت قبّة السماء في الليل، سيشعر، ولو للحظة، بشيءٍ غامض يشبه الطمأنينة، كأن الكون يربّت على كتفه، وكأن صوتًا خفيًا يهمس له:
"أنتَ لست وحدك، أنتَ امتدادٌ لما كان، وظلٌّ لما سيأتي."
الختام، دروس الحكمة الصامتة
اليوم، كلما ملأتُ وعاءً بالماء ووضعته تحت النجوم، لا أشعر أنني أكرر عادة قديمة، بل أحيي طقسًا مقدسًا، وأمدّ يدي إلى ذلك الخيط الرفيع الذي يربط الماضي بالحاضر.
وأدرك أن جدّتي لم تكن بحاجة إلى كتب فلسفة أو تعاليم روحانية لتفهم أسرار الوجود، فقد كانت تملك ما هو أثمن: قلبٌ نقيّ يرى الأشياء كما هي، دون زيف أو تعقيد.
لقد رحلت جدّتي منذ زمن، لكن أثرها لا يزال حيًا في داخلي، يعلّمني أن الوفاء من شيم الكرام، وأن التسامح مع من أساء تحرّر، وأن اللطف ليس ضعفًا، بل هو الاحتكام لقانون الكون، وأن الحب أعظم الطاقات وأصفاها، وأن الأفعال الكريمة التي تبدو ضئيلة، تنتقل عبر الزمن ولا تفنى، وتعود إلينا بطرق لم نكن نتوقعها.
جدّتي "أمينة العودة"، رحمها الله، كانت معلمة الكارما يوغا الأولى في حياتي دون أن تدري، كما أنها من أتباع المذهب الصوفي بالفطرة.
لروحها أطلب الرحمة، ولها مني تحية والف سلام.