أكاد أجزم أن تلك المدينة التي لا تشبه سواها، وأن الاذان الذي رفعه طارق بن زياد يعلو ويعلو وأنها ما تزال تقف كأنها جسر بين تاريخين، بين ضفتين، وبين حضارتين. هي حيث البحر يتنفس والجغرافيا تتحدث والتاريخ لا يزال ينبض في أزقتها العتيقة. هل يمكن أن نتصور أن طارق بن زياد، بقدمه الثقيلة على الرمال، قد جلس هنا؟ هل سمع أصوات الموج في المضيق، وهل تأمل تلك اللحظة التي نقلت العالم إلى الضفة الأخرى؟ فطنجة، رغم سكونها الظاهر، تحمل في طياتها كل تلك التواريخ والأحداث التي عاشها البشر على مر العصور.
عندما أكتب عن طنجة، لا أكتب عن مجرد مدينة على الخريطة، بل عن كائن حي ينبض في أعماقي، يتنفس مع كل خطوة أخطوها على أرصفته، كلما مررت بين أسواقه. ربما كانت شوارعها الأبدية – من السوق البراني إلى السوق الجواني، ومن شاطئ مرشان إلى أزقتها الضيقة – تحمل في جوفها شيئاً من أزمنة سابقة، شيء ما يشبه العذاب الجميل الذي يرتوي من كأس التاريخ.
حين كتبتُ روايتي "دموع على حدود طنجة"، كان هذا البحث عن معنى ما، محاولا أن أستجمع قطعاً من الذاكرة التي طوتها الأزمنة، استنشق رائحة البحر الذي يحاول أن يسحبني إلى الماضي، وأتلمس قسوة الحكايات التي لا أستطيع الهروب منها. وفي تلك اللحظات، كنت أعتقد أنني لست وحدي هنا، بل أنني أعيش في ظل أولئك الذين عاشوا قبلي، وهم الآن في كل زاوية، في كل صخرة، في كل نسمة هواء.
لكن الأمر لا يتوقف هنا. في مقهى الحافة، حيث تجمعت عقول العالم، حيث كان تشرشل يتأمل البحر قبيل قراراته المصيرية، كان حضور التاريخ يثقل المكان. شعرت وكأنني في دائرة زمنية غير مرئية، وكأنني في لحظة استثنائية تستعصي على الفهم، في اللحظة التي يلتقي فيها الماضي بالحاضر، ويلامسها النور الخافت للغروب. في هذا المقهى، لم تكن الجدران مجرد جدران، بل كانت أصداء أصوات الزعماء والفلاسفة الذين ارتشفوا قهوتهم، وتحاوروا في المسائل التي تبدو أكبر من المدينة نفسها.
وبينما كانت الطيور تطير عالياً، في تلك الرحلة غير المفهومة إلى لا مكان، كنت أتساءل: ماذا تقول؟ هل هي تشارك أسرار البحر، أم أنها تحاول الهروب من هذا المكان الذي يجسد كل شيء وأكثر؟ ربما كانت هي الأخرى تتوق إلى الرحيل، إلى أكثر من هذا السكون الذي يفرضه عليها المكان.
تلك اللحظات في طنجة، هي أكثر من مجرد مشهد بصري. هي مثل لحنٍ هادئ يتسلل إلى الأعماق، يغني للزمن الذي لم يغب، عن الأساطير التي لا تنتهي، عن المدينة التي تحاول دائماً أن تبقى في الذاكرة وتخترق حدودها. طنجة ليست مجرد مكان، بل هي فكرة تتنقل عبر الأجيال، كل واحد منا يحمل فيها جزءاً من ذاته، ويرى فيها انعكاساً لما لم يره الآخرون.
وإذا كان لي أن أتحدث عن طنجة، فلن أقول فقط إنها مدينة جمعت بين البحر والمحيط، بين الشرق والغرب، بين التقاليد والتحديث. بل هي دعوة للتأمل، دعوة للغرق في أعماق الذات، في مفترق طرق الأزمنة. هي مدينة تُعيد تشكيلنا كلما عدنا إليها، ومهما طال الغياب، فحضورها في القلب لا يتغير.
إذن، ما الذي سأقوله عن طنجة؟ سأقول إنها مكان يمكن أن يضيع فيه الزمن، لكنك لن تضيع فيه. سأقول إنني عندما أكون هنا، لا أكون وحيداً. بل أنا جزء من تلك الحكايات، جزء من تلك الذاكرة التي لن تبلى، وإن مر عليها الزمن. طنجة ستظل دائماً رحبة، تنقلك من لحظة إلى أخرى، من عالم إلى آخر، بكل ما تحمله من تاريخ عميق وجغرافيا ساحرة.
إنها طنجة، تلك المدينة التي تبقى حاضرة في الذاكرة، مثل طيف عابر لا يختفي أبداً.