العقوبات البديلة .. فرصة ثانية للإنسان بكرامة
د. أشرف الراعي
26-03-2025 06:41 PM
من يراقب تطور الفكر العقابي في العالم، يدرك أن الاتجاه نحو "العقوبات البديلة" لم يعد ترفاً إصلاحياً، بل ضرورة ملحّة تمليها وقائع الواقع، ومتغيرات العدالة المعاصرة، وهذا ما تؤكده التجربة الأردنية، فمع إعلان وزارة العدل تنفيذ 274 حكماً بعقوبات بديلة منذ بداية العام وحتى نهاية شهر شباط، وقرار مجلس الوزراء منح صفة الاستعجال لمشروع قانون معدل لقانون العقوبات يهدف إلى توسيع نطاق هذه العقوبات، فإن الاكتظاظ الهائل على السجون سيقل بنسبة كبيرة.
إنها لحظة "فارقة" في تحول في الفهم المؤسسي لمفهوم العقوبة: من "الردع والزجر" إلى "الإصلاح والدمج"، ومن "السجن كغاية" إلى "العدالة كوسيلة لتحقيق الأمن المجتمعي الحقيقي"، وهو ما ندعو إليه ودعا إليه أساتذتنا في القانون الجنائي مسبقاً؛ فالعقوبة "ليست نهاية المطاف"، بل بداية لمسار جديد... مسار يستعيد فيه الإنسان مكانته في مجتمعه، لا التعامل معه كمجرم، وككائن قابل للتغيير لا كرقم إضافي في تقارير الاكتظاظ.
في مقالي السابق المنشور في موقع "عمون" تحت عنوان "العقوبات البديلة: خطوة إلى الأمام", أشرت إلى أن فلسفة العقوبة لم تعد تكتفي بسؤال "كيف نردع الجريمة؟" بل باتت تُعلي من سؤال "كيف نمنع تكرارها؟"، والإجابة تكمن غالباً خارج أسوار السجن.
فمثلاً في دول مثل هولندا، أدى التوسع في العقوبات البديلة وبرامج التأهيل إلى إغلاق أكثر من 19 سجناً خلال سنوات قليلة بسبب قلة عدد السجناء، وفي النرويج، حيث تنخفض نسبة العائدين إلى الجريمة إلى 20% فقط، لا يُنظر إلى السجين كخطر، بل كمشروع إصلاح اجتماعي يجب استثماره، أما في كندا، فقد تبنت الدولة برامج "العدالة التصالحية" بشكل منهجي، خاصة في قضايا الأحداث، وأسفرت هذه البرامج عن خفض معدلات العودة للجريمة بنسبة تفوق 35% مقارنة بالأنظمة العقابية التقليدية.
الأردن، يخطو بثقة نحو هذا الاتجاه، وبالتالي فهو لا يقوم فقط بسن قوانين بل يرسي فلسفة جديدة للعدالة، من خلال مشروع القانون المعدل لقانون العقوبات لعام 2025 الذي لا يكتفي بتوسيع تطبيق العقوبات البديلة، بل يمنح قاضي التنفيذ صلاحيات حيوية كوقف تنفيذ العقوبة بعد صدور الحكم القطعي، أو تأجيل تنفيذ الغرامة وتقسيطها، وهذه التحولات ليست مجرد إجراءات فنية، بل تعبير عن نضج تشريعي يُدرك أن العدالة ليست دوما في القيد، وأن المصلحة العامة قد تتحقق في بعض الأحيان خارج القضبان، لا داخلها.
لكن لكي تنجح العقوبات البديلة وتترسخ كممارسة مجتمعية مقبولة، لا بد من العمل على عدة مستويات؛ أهمها كسر الصور النمطية التي تربط "العدالة" فقط بالسجن، وتعريف الناس بمفهوم العدالة التصالحية والإصلاح المجتمعي، ودعم الشراكات بين وزارة العدل، ومؤسسات المجتمع المدني، والبلديات، لتوفير بيئة ملائمة لتنفيذ العقوبات البديلة بفعالية، وإقرار القوانين بسرعة، وتوفير أدوات مراقبة دقيقة لتقييم أثر العقوبات البديلة على تكرار الجريمة وإعادة الإدماج في المجتمع؛ فـ "العدالة ليست انتقاما... بل مسؤولية".
وحين نربط العدالة بالحرية لا بالسجن، فإننا نعيد الاعتبار لأبسط مبادئ حقوق الإنسان، ونؤكد أن العقوبة ليست إقصاءً، بل تصحيحاً، وليست عزلاً، بل فرصة، ومن هنا فإن مشروع القانون الأردني الجديد يشكّل نافذة أمل، ليس للجناة فحسب، بل للمجتمع الذي يستحق نظاماً عقابياً أكثر عدالة وفاعلية وإنسانية؛ فالعدالة ليست في الزنازين وحدها، بل في قدرتنا على منح الإنسان فرصة ثانية... بكرامة.