لو عندنا أحد كرشيد بيضون .. هل سنصفق له .. أم سنحاسبه؟! ..
محمود الدباس - ابو الليث
25-03-2025 11:08 PM
الخطف.. كلمة تقشعر لها الأبدان.. ترتجف منها القلوب.. ويشمئز السمع من وقعها.. إذ لا يخطر في بال أحدٍ إلا صورة الظلم.. والإجرام.. والمجهول المخيف.. فكيف إن كان الحديث عن خطف الأطفال؟!.. كيف إن كان اختطاف أرواحٍ صغيرةٍ من دفء أحضانها.. إلى مصير لا يعلمه إلا الله؟!..
بيروت.. عام 1937.. المدينة تضج بالحياة.. رغم ما يثقلها من فقرٍ وألم.. في ساحاتها وشوارعها الضيقة والمزدحمة.. بين السينمات والمقاهي والأسواق.. تنتشر أرواحٌ صغيرة.. تبيع العلكة واليانصيب.. وتمسح الأحذية بيدٍ صغيرة.. بالكاد تُمسك الفرشاة.. حفاةٌ بوجوه متسخةٍ.. وأعينٍ تبحث في المارة عن لقمة العيش.. عن لفتة حنان.. قد تأتي ولا تأتي.. وذات يومٍ.. استيقظت بيروت على صدمة.. لم يعرف لها الناس مثيلاً.. اختفى الأطفال جميعاً.. من كل زاوية وشارعٍ وزقاق.. كأن المدينة أفرغت من براءتها في لحظةٍ واحدة..
عمَّ الذعر.. علت أصوات الأمهات المذعورات.. دبّ الهلع في الأزقة والأسواق.. بلاغاتٌ تتوالى.. والمدينة في غليانٍ غير مسبوق.. من خطف الأطفال؟!.. من اجتثهم من شوارعهم البائسة بهذه الطريقة المخيفة؟!..
لم يطل الانتظار كثيراً حتى تبيّن أن الخاطف ليس مجرماً.. وليس عصابةً من تجار البشر.. بل رجلٌ واحدٌ.. وزير الدفاع الوطني آنذاك.. رشيد يوسف بيضون.. رجل لم يُرزق بأطفال.. لكنه قرر أن يكون أباً لمئاتٍ منهم.. أخذهم لا ليختفي بهم.. بل ليعيدهم إلى الحياة.. اشتَرى لهم الثياب.. وفرش لهم الأسرة الدافئة.. وأدخلهم المدرسة العاملية الابتدائية في رأس النبع.. التي أسسها خصيصاً لهم.. معلناً أنه سيتكفل بكل شيء.. تعليمهم.. غذاؤهم.. صحتهم.. وحتى يعوّض أهلهم عن رزقهم.. الذي كانوا يجمعونه من العمل في الشوارع.. وأوفى بعهده..
سنواتٌ مرت.. كبر الأطفال الذين اختُطفوا يوماً.. صاروا رجالاً ونساءً متعلمين.. يحملون شهاداتهم.. ويكملون دراساتهم في أوروبا.. منهم الطبيب.. والمهندس.. والأستاذ.. وكلهم كانوا يوماً حفاةً يبيعون العلكة في زوايا المدينة.. لم يكن اختطافاً.. كان إنقاذاً.. كان قراراً تأخر كثيرون في اتخاذه.. وكان رشيد بيضون.. الرجل الذي امتلك الشجاعة ليحملها على كتفيه وحده..
هذه القصة التي أوردتها صفحة الدكتور جوزيف زيتون.. ليست مجرد ذكرى جميلة من زمنٍ ولّى.. إنها سؤالٌ ملحٌ.. يجب أن نطرحه اليوم على أنفسنا..
متى يكون عندنا في أردننا الغالي.. رجلٌ كرشيد بيضون؟!.. أو مؤسسةٌ وطنيةٌ.. تحمل هذه المسؤولية الجليلة؟!.. متى نخطف أطفالنا من الشوارع؟!.. لا لنخفيهم.. بل لننقذهم من الجهل والحاجة والتشرد؟!.. متى يكون هناك خاطفٌ يشبه هذا الرجل.. لا يسلب الأطفال.. بل يمنحهم الحياة؟!..
ربما.. قد نحتاج يوماً إلى مثل هذا الخطف.. ربما يجب أن نطالب به.. نعم.. نطالب أن يُؤخذ الأطفال من أرصفة الشقاء.. ليُعادَ إليهم حقهم في الطفولة.. فهل ننتظر معجزة.. أم نصنعها بأيدينا؟!..