لا أذكر على وجه التحديد كيف اهتديتُ إلى موقع عمون. لكن ما أذكره أنني استقبلته بنوع من التحفظ و عدم الاطمئنان؛ فسقف الحرية الذي فيه يدفع للاعتقاد أن وراء الأكمة ما وراءها. ذاك أننا لم نعتدْ على مثل تلك الحرية في الصحافة الأردنية. ثم إنه من الراجح أن مَن يحاول في عالمنا العربي السعيد المجيد أن يضيء إحدى الزوايا المطفئة، فإنه غالباً ما ينتهي مُنتهى "فراشة الحلاج"! و عليه، ليس من اليسير على واحدنا الاعتقاد بوجود إعلام حر. و لم يلبث التحفظ و عدم الاطمئنان المذكورين أن زالا في ذلك اليوم المشهود الذي قرر فيه أحدهم تغييب الموقع. فاستوى تغييبه قرينة ظاهرة على صدقه و نزاهته. عندئذٍ تبيّنَ أنه لم يكن هناك أكمة، و تاليا، لم يكن وراءها ما وراءها.أما الذين غيّبوا الموقع، و أنكروا و استنكروا و استكثروا على عمون قيامها بمقامها، فلو عرفوا أن فِعلتهم تلك سوف تزيد من شعبية الموقع، و تُزيل تحفظ المتحفظين، و تُذْهب ريبة المرتابين، لو عرفوا ذلك إذاً لما أقدموا على ما أقدموا عليه. هذا من وجه، أما من الوجه الآخر فقد أعلنوا – بصوت مدوٍ – خلو وفاضهم من أية فكرة أو خُلُق ثقافي و سياسي و إنساني.
و لأن الرصاصة التي لا تقتل، تقوّي؛ فقد بدأتْ عمون بعد تلك الفعلة تشق طريقاً قاسيا إلى حيث أفق جديد من الحرية و النور. و غني عن البيان أن شقّ ذلك الطريق كان أشبه بمهمة سيزيفية. إلى ذلك الوقت، كنت أكتفي بالمتابعة دون التعليق. ثم لمّا شرعَ يتبدى أن عمون لم تكن وليدة لحظة ألم فسطرها القلم؛ بل كانت رؤيا و حدس، إذ ذاك قلتُ – محدثاً نفسي – هلّمَ إلى النور و التنوير. و جعلتُ أضخ التعليقات صبحاً و مساءً، و ضحىً و عشاءً، تارة بأسماء مستعارة، و أطواراً بالاسم الحقيقي، و أحياناً دون اسم، و أخيراً قرّ قراري على اسم (الأسير).
لكنْ، أنّى تسنّى ل"عمون" أن تُمسي موئلاً لكل لائذ، و ملجئاً لكل طريد، و دفئاً لكل منبوذ من "فردوس" الصحافة المحلية؟ الجواب: من طريق الحرية و المسؤولية، الإيمان و العناد، و الإيمان بالعناد؛ ذاك أن عباقرة الإعلام المحلي و "مثقفيه" لم يدركوا، حتى هذه اللحظة، أن الإعلام لا يستوي إعلاماً إذا لم يكن حراً. فالحرية لئن كانت قيمة كونية كبرى، فإنها بالنسبة للمثقف أكبر من قيمة، و أبعد من مبدأ، و أعمق من جوهر، و أكبر من فكرة: إنها شرط. فإذا امتنع هذا الشرط عن التحقق، كفّت كلمة "مثقف" عن الدلالة على معنى. و هذا ما تنبه له أصحاب عمون (كلمة أصحاب غير مناسبة هنا، الأفضل أن نقول "مبدعي عمون") مبكراً حين جعلوا الحرية نصب أعينهم، و المسؤولية محور وعيهم، و الصدق مبلغ أمرهم. هكذا نهضت عمون على الإعلام المحلي تاجاً و سراجاً، و هكذا صارت مَعلماً و شاهداً في زمن عزّ فيه الشهود، و قامت منه "الأبواق" مقامَ الزمام؛ بهذا المعنى، جاءت عمون مجيء صرخة كتلك التي أطلقها (مونش) ذات غروب موحش. و هي صرخة ضد الامتثال و التقليد، التحجر و التأبيد، الاستبداد و الفساد.
و ربما يكون أروع ما نجمَ عن عمون هو إبرازها لطائفة من الكتّاب، على سوية رفيعة من الموهبة و الحرفية. و هؤلاء، على الأرجح، كان يحول دون بروزهم ذلك "الستار الحديدي" للصحافة المحلية. من هؤلاء الكتّاب الأستاذ واق ويق، (و هو أبلغهم) و مخلد الدعجة، (و هو أذكاهم)، و هاني العزيزي، (و هذا أجملهم)، و جياذ آدم (و هذا أعمقهم، أو يمكن أن نطلق عليه لقب "ظاهرة").
و منعا للملل، و درءً للزلل، فلن نفيض أو نستفيض، فقط أنتمنى أن تقبلوني ضيفاً على قلوبكم المضيافة،
و عسانا نستطيع أن نحلل و نعلل أكثر مما نسرد و نعاتب، وعلّنا نؤسس يداً بيد، و كتفاً بكتف، إعلاماً حراً يقوم على ثقافة الحوار. و لا ريب أن الأخير هو المطمح و المطمع للارتقاء و النهضة و التوثب. فإذا عرفنا أن الله - جلّ ثناؤه - حاور إبليس حين قال: " ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك"، جازَ أن نسأل: لماذا بلغت حواراتنا هذا المبلغ من البؤس و الركاكة؟ الأغرب من هذا أن إبليس كان "مؤدباً" في ذلك الحوار؛ إذ لم يغضِ و يمضِ، بل قال حجته بقدر معقول من "الذوق": "أنا خيرٌ منه خلقتني من نارٍ وخلقتَهُ من طين"!