ابتهالاتٌ على عتبةِ النور
أ.د سلطان المعاني
25-03-2025 11:48 AM
حدثوني بأن الأرض باتت أضيق من أن تحمل ما تبقى من خطواتنا المتعبة، وأن النهار قد صار أقصر من أن يضيء دروبنا الممتدة بين الشك واليقين. حدثوني بأن الأيام تزداد شحوباً، والحياة أضحت فقيرة كقلبٍ أفرغته الهزائم، وأن الأصدقاء قلائل، كأن الرحيل سنةٌ فيهم، والحظ كُسرت يداه فلم يعد يُجيد التقاطنا حين نسقط.
وأنا حدثتهم عنكَ؛ عن ذلك الفضاء الذي يملؤني حين تضيق الأرض، عن أبواب عنايتك التي لا تُغلق ولو طاف حولها اليأس ألف مرة، عن كرمكَ الذي يشبه المطر، حين يهطل يفيض ليغسل أرواحنا من التعب ويملأ أيامنا من جديد. أخبرتهم بأن فضلكَ باقٍ، لا تعتريه فصول ولا تتبدل به أزمنة، وأن عطاياك تخترق ضيق قلوبنا مثل نورٍ ينساب في عتمة بئرٍ منسية.
فأرني يا إلهي ما تقرّ به روحي، هبني سكينةً تعيدني إليك حين تضج بي الدروب، واجعل عفوكَ نهرًا يمرُّ بروحي، يطهرها من أوجاع الأمس وقلق الغد. أنت يا الله الخيرُ الذي لا يفنى، والجمال الذي لا يخبو، والحب الذي يُزهر في عيونٍ غادرتها الأحلام، والأمل الذي ينبت في تربةٍ هجرتها الأمطار.
أسألك حباً يسمو بي فوق دنيا لا تُتقن سوى الغياب، حباً يرتق ثقوب القلب، ويُطهِّر ماء الروح من العَكَر، حباً يجعلني قريباً منك كقرب الدعاء من شفاهٍ مرتجفة، حباً يكشف لي عن نورك، ويشهدني عظمة جلالك، ويسكب في أعماقي قناعةً أغتني بها عن كل شيء.
حباً هو وحده الكفاية، وهو وحده الغِنى، وهو وحده الطريق إليك.
2
ثمة قلوبٌ نحبُّها، يمرُّ طيفُها بنا في لحظة تعبٍ، فتُضيءُ فجأةً كل الدروب المعتمة، وتتسع أمامها أرواحُنا المزدحمة بالمخاوف. أولئك الذين يسكنون بين الضلوع خفيةً، كأنَّ حياتنا بهم تبدأ، أو كأنهم سرٌّ لا نبوحُ به خوفًا من هشاشةٍ تجرحُه أو من نسيانٍ قد يطالُه. لأجلهم فقط، نصوغُ من الكلمات أملاً صغيرًا يكفي ليمنحَ أرواحهم شيئًا من طمأنينة.
لعلَّ قلوبهم تعودُ إليهم من جديد؛ تعودُ خفيفةً كغيمةٍ بيضاء لا تُثقِلُها ذكرياتٌ ولا وجعُ انتظار. لعلَّ أقدامهم تجدُ طريقًا بعيدًا عن دروب القلق، فيحلُّ مكانَه سلامٌ عميقٌ كليلةٍ صافية، في صمتها أمانٌ، وفي هدوئها راحةُ العمر كلِّه. لعلّ أيامَهم تزهرُ بلحظاتٍ لا تغادرهم سريعًا، ويصيرُ نعيمُهم شيئًا من الحبّ لا تنطفئُ أنواره في الأرض ولا السماء.
ولأنهم يعبرون دروبًا موحشة، دروبًا قد لا يعرفون نهايتها، فإنَّ كلَّ ما أتمناهُ هو أن يجدوا في خطواتهم أُنسًا يُبدّد الوحشة، ويُعيدُ لأرواحهم أُلفةَ الضوء، حتى وإن ابتعدوا، حتى وإن طال الغياب، تظلُّ قلوبهم هانئة، محاطةً بدفءٍ لا ينقطع.
إن مررتم يومًا على أسمائنا، قولوها في سرِّكم كما يقولُ القلبُ أمنياته العميقة، كما تُلقى كلمةٌ على كتفِ التعب فترفعُه. خصّونا بدعوةٍ لا يعلمُ بها سوى الليل، دعوةٍ كأنّها ضمادُ الروح، كأنها لمسةٌ تُجبرُ خاطرًا لا يُرى كسرهُ إلا في العيون.
مرّوا على أسمائنا، ولو عابرين، وارفعوها من صمتٍ إلى سماءٍ تُصغي إلى همسِ القلوب. اجبروا خواطرنا ولو سرًا، فما العمر سوى لحظةٍ خفيةٍ من حُبٍ نُهديه لمن نُحب.
3
تسيرُ بنا الأيامُ أحيانًا على غير هُدى، يثقُلُ العمرُ، وتتعبُ الخُطى، فنبحثُ عن دربٍ يمسحُ عنا الغبار ويُعيدُ لقلوبنا النور. نبحثُ عن بابٍ نطرقُه، ليُفتَحَ لنا فيغسلَ أرواحَنا ويُعيدها إلى صفاءٍ فقدناه في غفلةِ انشغالنا بالدنيا وما فيها. وفي لحظةِ صمتٍ عميقة، كأننا نولدُ من جديد، تشرقُ في صدورنا نوافذُ أملٍ نُطلُّ منها نحو سماءٍ لا حدودَ لاتساعها، نرجو عفوًا يُغلقُ بابَ الندم، ويمنحُنا توبةً خالصةً تُضيءُ ظلامَ الطريق.
لعلَّ الأرواحَ حين تثقُلُ بأوزارها تبحثُ عن استراحةٍ قصيرةٍ من متاعب الدنيا، عن نسمةٍ لطيفةٍ من عافيةٍ تمسحُ الوجع، أو عن همسةٍ دافئةٍ من لطفٍ يحميها من الأذى. في تلك اللحظة الفارقة، نرجو لمن نحبُّ أن يتوشّحوا بثوبِ الصحة، ويزينَ قلوبهم ثوبُ السكينة، ويمتلئَ ميزانُهم بحمدٍ لا يفنى ولا ينضب.
نرجو لهم دروبًا آمنةً تعانقها أجنحةُ الطمأنينة، وأن تُزهِر بين أيديهم أمانيهم التي طال انتظارُها، وأن يكون جبْرُ خواطرهم كبيرًا كعظمةِ السماء، عميقًا كسرٍّ يحيرُ القلوب، مدهشًا لدرجة أن يعجَب منه الوجود كله، وكأنه معجزةٌ صغيرةٌ لا يلمحها سوى من عرَف معناها.
نرجو لهم أن تكون السعادةُ رفيقةً مخلصةً على امتدادِ العمر، وأن يظلَّ نورُ الفرحِ مضيئًا لا ينطفئ، وأن ينالوا من طيب الحياةِ ما يُنسيهم مشقةَ المسير، وأن تكون حياتُهم بهجةً في الدارين؛ بهجةً تُغنيهم عن كل ما عداها، وترفعُ قلوبهم إلى حيثُ لا تعب، ولا شقاء، ولا حزن، بل سلامٌ دائمٌ وأمنياتٌ لا تعرف النهاية.