تلك هي الإشكالية الكبرى.. التي يعاني منها كثيرون.. يمتلكون مخزوناً هائلاً من المعلومات.. يحفظون الأرقام والنظريات والتواريخ.. يملكون القدرة على سرد الحقائق بسلاسة.. لكنهم في اللحظة الحاسمة.. يعجزون عن توظيف هذه المعرفة.. في مكانها الصحيح.. فيصبح العقل سجيناً لمعارف غير موظفة..
في السياسة على سبيل المثال.. تجد من يحفظ دساتير الدول عن ظهر قلب.. يقتبس مواد القوانين.. ويستعرض تجارب الشعوب في النهضة والثورات.. لكنه حين يتحدث عن وطنه.. يختار الحلول المستوردة.. دون أن يراعي اختلاف الظروف والخصوصيات.. كمن يأتي بتجربة نجحت في اليابان.. ليطبقها في صحراء قاحلة.. أو من يطالب بديمقراطية.. لا تناسب واقع شعبه وثقافته.. فينتهي الأمر بفوضى.. يبررها بأنه كان يسعى للإصلاح.. فالمعرفة وحدها لا تكفي.. بل تحتاج إلى حكمة في التطبيق..
وإذا ما اتينا إلى الاقتصاد.. هناك من يتحدث عن المشاريع الكبرى.. والاستثمارات الأجنبية.. يعدد أسماء الشركات العالمية.. وأرباح الأسواق.. لكنه حين يُسأل عن حلٍ لأزمة البطالة.. أو الفقر في بلده.. يقف عاجزاً عن اقتراح ما يناسب مجتمعه.. يكرر الشعارات البراقة.. عن التنمية والخصخصة.. دون أن يدرك أن بعض الحلول.. تحتاج إلى تأهيل بنية تحتية.. قبل استيرادها.. كمن يشتري آلة معقدة.. دون أن يكون لديه من يستطيع تشغيلها.. فينتهي الأمر بأفكارٍ جميلة.. لكنها بلا فائدة تُذكر..
ولن أترك الحياة الاجتماعية دون تعريج.. فهناك من يظن.. أن المعرفة.. هي امتلاك كمٍّ هائل من الكتب والمعلومات.. لكنه يفتقر إلى أبسط مهارات التعامل الإنساني.. قد يحدثك عن نظريات في علم النفس.. ويحلل الشخصيات بعمق.. لكنه يفشل في قراءة مشاعر أقرب الناس إليه.. كمن يتقن فنون الطهي.. لكنه لا يعرف متى يكون الجائع بحاجة إلى لقمة صغيرة.. أو إلى مائدة كاملة..
وهنا.. تتجلى الحقيقة.. التي وصفها الله في كتابه الكريم {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}.. يحمل على ظهره كنزاً من العلم.. لكنه لا يعي منه شيئاً.. وكذلك هو حال من يملكون المعرفة.. دون حكمة..
كثيرون يرددون أقوال الفلاسفة.. دون أن يفهموا معانيها.. يطبقون القوانين.. دون إدراك للواقع الذي تحكمه.. يبنون نظريات اقتصادية.. دون مراعاة إمكانيات مجتمعاتهم.. يعتقدون أن العقل يكتمل بالمعلومات فقط.. متناسين أن العقل بلا حكمة.. كالسفينة بلا بوصلة..
ربّاط السولافة.. ليست العبرة بِكَمّ المعرفة التي نمتلكها.. بل بقدرتنا على وضعها في مكانها الصحيح..