خفي زمنٍ تتسارع فيه الإيقاعات وتتداخل فيه الأصوات، يأتي برنامج "قهوة هند" على شاشة تلفزيون أبوظبي ليقدّم للمشاهدين لحظة هدوء نادرة. لحظة لا تُقاس بالدقائق، بل بالصدق والدفء والبساطة. البرنامج الذي تقدّمه الكاتبة والقاصة ورائدة الاعمال الأردنية هند خليفات لا يشبه البرامج الحوارية التقليدية، بل ينتمي إلى مساحة خاصة، فيها من الشعر بقدر ما فيها من الفكر، ومن التأمل بقدر ما فيها من الحوار.
هند خليفات ليست إعلامية بالمعنى النمطي، بل مزيج متكامل من الإبداع. هي كاتبة وقاصة ورسّامة ومؤثرة، تنتمي إلى الجنوب الأردني، من وادي موسى حيث تنام البتراء في حضن الصخر، وتنهض الحكايات من ظلال الورد النبطي. تحمل معها سكون الجبال وعمق الذاكرة، وتسكب كل ذلك في فنجان قهوتها الذي لا يُقدَّم على عجل، بل يُصنع بمحبة، وتُزيّن تفاصيله بأنغام الموسيقى وكلمات تفتح أبواب النفس.
في كل حلقة من "قهوة هند"، نستقبل ضيفًا عربيًا يُعرّفنا على عالمه الخاص. لا تسأل هند من باب الفضول، بل من باب الرغبة في الفهم. تبدأ الحكاية بتحضير القهوة على مهل، وكأنها تعجن الحوار بين يديها، ثم تجلس في مكانٍ يشبه الصالون العائلي، تتحدث لا كإعلامية، بل كإنسانة.
تستضيف في برنامجها "المكثرين"، أولئك الذين كثرت تجاربهم وتراكمت في ذاكرتهم القصص، يحملون على أكتافهم حكايات لا تُروى في العادة على الهواء، لكن مع هند... تخرج كما لو كانت تعرفهم منذ الطفولة.
في إحدى الحلقات الاستثنائية، استضافت خليفات معالي مجد شويكة، الوزيرة السابقة التي تحدّثت عن شغفها بتحضير القهوة، ليس كمجرد طقس صباحي، بل كمساحة للتأمل وترتيب الأفكار. سردت ذكريات الطفولة، ولعب "الفطبول"، وموائد "المجدّرة" التي جمعتها بجيران الزمن الجميل، وأعادت للمشاهدين دفء الماضي بلغة راقية ومتواضعة في آنٍ معًا.
وحين قالت شويكة: "أنا لا أدير الوقت... بل أدير الأولويات." لم تكن مجرّد عبارة، بل تلخيصٌ لفلسفة حياتية ناضجة، تُظهر كيف يمكن لصاحبة قرار أن تكون أيضًا صاحبة قلب.
"قهوة هند" ليس عرضًا بصريًا فقط، بل وجبة فكرية وروحية متكاملة، تُعيد تعريف العلاقة بين المُحاور والضيف، وتقدّم نموذجًا من الإعلام الإنساني القريب من القلب، البعيد عن الضجيج.
في زمنٍ تملأه الخوارزميات وتُعيد تشكيله الروبوتات، وفي عالم تتراكم فيه رسائل التواصل حتى تفقد معناها، تذكّرنا "هند خليفات" أن هناك من لا يزال يصغي... من يسكب القهوة على مهل، ويمنح الكلمة وزنها، والسؤال حقّه.
البرنامج ليس مجرد نافذة ثقافية، بل تجربة بصرية وسمعية وروحية تُحاكي العقل والوجدان، وتُعيد للمشاهد العربي حنينه إلى الحكاية، وإلى التفاصيل التي تصنع الفرق.
تحية إلى هند خليفات، وإلى تلفزيون أبوظبي الذي أتقن رسم هذه اللوحة الإعلامية الفريدة؛ فنجان قهوة لا يُنسى... بنكهة الشرق، وعبق البتراء، وعمق الإنسان في عصر الروبوت والكمبيوتر والضوضاء الرقمية.