العملية الأكاديمية وتمكين الطلبة في زمن التحولات
أ.د سلطان المعاني
22-03-2025 01:10 PM
تتجلى أهمية التعليم في اليوم من خلال قدرته على تجاوز الأهداف الأكاديمية الضيقة، ليُصبح مشروعًا تنمويًا شاملًا يسعى إلى بناء الإنسان في كليّته، عقلًا وجسدًا وروحًا. وفي هذا السياق، ينبغي أن تتبنّى مؤسسات التعليم العالي العربي، مفهوم التنمية الشاملة بوصفه بوصلة لإعادة تصميم العملية التعليمية لتصبح أكثر تكاملًا وتعددًا في الأبعاد.
ويقوم هذا التوجه على إيلاء العناية للأبعاد الخمسة الأساسية لنمو المتعلم، بدءًا من النمو المعرفي الذي يُعزز التفكير النقدي والتحليلي، ويمكّن الطلبة من التعامل مع تعقيدات المعرفة في عالم متغير. ويضاف إلى ذلك البعد العاطفي، الذي يُركز على تطوير الوعي الذاتي، ومهارات التعاطف والذكاء العاطفي، وهو أمر أصبح بالغ الأهمية في بيئات العمل والتعليم المعاصرة التي تتطلب تواصلًا إنسانيًا راقيًا. أما على الصعيد البدني، فإن تعزيز الأنشطة الرياضية والصحية داخل الحرم الجامعي يُسهم في توازن الجسد والعقل، ويُعزز من قدرة الطلبة على التركيز والصمود الذهني. كما يحظى البُعد الروحي بأهمية متزايدة، ليس من باب الطابع الديني فقط، ولكن أيضاً من منطلق الأخلاقيات، واليقظة الذهنية، وتكوين ضمير حي يوجّه السلوك الأكاديمي والاجتماعي. ويُعد البُعد الاجتماعي حجر الزاوية في هذا التصور، من خلال تشجيع العمل الجماعي، وتنمية روح المسؤولية المجتمعية، والانخراط في قضايا الشأن العام، مما يُعد الطلبة ليكونوا فاعلين في بناء مجتمعاتهم، لا مجرد أفراد يسعون لتحقيق نجاح شخصي.
في الأردن، بدأت تظهر ملامح هذا التوجه من خلال إدماج أنشطة غير صفية، وإنشاء مراكز إرشاد نفسي، وتنظيم برامج خدمة مجتمعية داخل الجامعات. ورغم أن هذه المبادرات ما تزال في طور التوسّع، إلا أن أفقها يحمل إمكانية إحداث تحول عميق في جودة التعليم وتجربة الطالب الجامعية، بما يعزز من دوره كمواطن واعٍ ومسؤول في مجتمعه.
يشهد التعليم العالي في العالم، تحوّلاً متسارعا وملحوظًا نحو تعظيم تبنّي منهجيات تعليمية تركّز على تنمية المهارات، وليس نقل المعارف النظرية فقط. ويأتي هذا التحول استجابة لمتطلبات سوق العمل المتغيرة، التي لم تعد تكتفي بالشهادات الأكاديمية، وأصبحت تبحث عن خريجين يمتلكون مهارات عملية قابلة للتطبيق الفوري، ويستطيعون التكيف مع بيئات مهنية ديناميكية ومعقدة.
في هذا السياق، يُعد تعزيز مهارات التوظيف وريادة الأعمال أولوية في بناء مناهج تعليمية قادرة على مواكبة القرن الحادي والعشرين.
ويشمل ذلك تمكين الطلبة من أدوات العصر مثل الترميز، والتسويق الرقمي، والتفكير التحليلي، وحل المشكلات، والتواصل الفعّال، وهي كلها مهارات تُعد اليوم بمثابة العملة الجديدة في السوق العالمي. كما أن غرس روح ريادة الأعمال داخل الحرم الجامعي قد أصبح ضرورة لخلق ثقافة إنتاجية تُمكّن الطلبة من خلق فرصهم بأنفسهم بدلًا من انتظار الوظيفة.
وهنا في الأردن، من الضروري أن تتجه الجامعات بشكل أكثر تكاملاً نحو تحديث برامجها الأكاديمية بما يتماشى مع متطلبات سوق العمل المتغيرة، من خلال إدراج مساقات عملية في مجالات مثل التفكير التصميمي، وريادة الأعمال، والمهارات الرقمية الحديثة. كما ينبغي تعزيز التعاون مع القطاع الخاص لتوفير فرص التدريب العملي، وبناء جسور متينة بين البيئة التعليمية وسوق العمل. يُعد هذا التوجه خطوة محورية لدعم الأجندة الوطنية الرامية إلى تمكين الشباب، وتقليص الفجوة بين مخرجات التعليم واحتياجات السوق، وتعزيز مسار الأردن نحو اقتصاد معرفي قائم على الابتكار والتوظيف النوعي.
إن تبنّي منهج موجه نحو المهارات لا يعني تهميش الجوانب النظرية، بل تحقيق التوازن المطلوب بين العمق الأكاديمي والجاهزية المهنية. فالتعليم الذي لا يُفضي إلى التمكين الاقتصادي والاجتماعي يظل ناقصًا، ولذلك فإن إعادة تصميم المناهج بما يخدم هذا التوجه بات من الضرورات الملحّة لضمان مستقبل أكثر استدامة للشباب العربي، والأردني على وجه الخصوص.